السبت, 09 أكتوبر 2010 06:19
عبد المنعم أبو إدريس
كاتب سوداني وصحفي بوكالة الأنباء الفرنسية
يوم الخميس السادس عشر من سبتمبر 2010 غيّب الموت المناضل الأريتري- السوداني محمد سعيد ناود، خاتماً رحلة بدأت في العام 1926, ووقتها كانت دولة أريتريا في عالم الغيب. وبعد الميلاد عبرت أسرة محمد سعيد ناود الحدود بين السودان وأريتريا باتجاه الساحل لتحط الرحال في مدينة بورتسودان، ووقتها كانت المدينة التي تأسست في العام 1909 في بواكير صباها.وبدأت رحلة محمد سعيد ناود الدراسية في مدرسة بورتسودان الأولية.
وفي العام 1952 انتهت رحلة ناود التعليمية عند آخر عتبة في المرحلة الوسطى.وعلى الرغم من أنه تم قبوله في معهد التربية بخت الرضا, ولكن ظروف أسرته جعلته يغادر مقاعد الدراسة ويلتحق بسلك الوظيفة في شركة التلغراف الشرقية بمدينة بورتسودان.وتزامن ذلك ببداية علو المد اليساري فالتحق ناود بالجبهة المعادية للاستعمار التي أصبحت لاحقاً الحزب الشيوعي السوداني، بل إنه في وقت وجيز أصبح سكرتيراً لها في مدينة بورتسودان.أريتريا لا تزال في الذاكرة
ومع أن الوظيفة ووضعها الاقتصادي وقتذاك خلق له استقراراً مادياً كما أنه اندمج في مجتمع المدينة الساحلية إلا أنه لم ينس جذوره في أريتريا.فقام في العام 1954 برحلة سرية لعدد من المدن الأريترية وأدار حوارات مع عدد من سكانها بخصوص قيام تنظيم ليدير نضال الأريتريين ووقتها لم يكن الكفاح الأريتري قد بدأ بعد.وكان ناود يؤمن وقتها بالوحدة بين الشعبين السوداني والأريتري فعلى الرغم من أنه كان ناشطاً في الجبهة المعادية للاستعمار (الشيوعي السوداني) فإنه كان يسافر للمدن الأريترية بحثاً عن تأسيس حركة لنضالات الشعب الأريتري.تأسيس مؤتمر البجا
وفي العام 1958 عندما تنادى عدد من مثقفي شرق السودان لتأسيس كيان يضم أهل الشرق ويعمل على محاربة الفقر في الشرق، شارك سعيد ناود مع هذه الطليعة في تأسيس مؤتمر البجا.والطريقة التي تأسس بها مؤتمر البجا تكشف حكاية اندماج ناود في المجتمع البورتسوداني وقتها فالمؤتمر انطلق من حي (ديم عرب) وهو من أحياء بورتسودان الشعبية ويسكنه البجا الذين يعملون في تحميل وإنزال البضائع من على ظهر السفن (كلات).إضافة لذلك فإن فكرة مؤتمر البجا تبلورت في منتدى كان يقام على بساط يفرش على الأرض وأخذ اسمه من هذا البساط، وسمي (منتدى البرش).
ولعل هذا الارتباط العميق والوثيق هو ما جعل ناود يكتب مقالاً ينشره في جريدة أريتريا الحرة الناطقة بالعربية عقب توقيع اتفاق سلام شرق السودان 14 أكتوبر 2006 يروي من خلاله حكايته مع مؤتمر البجا أحد مكونات جبهة شرق السودان التي وقعت الاتفاق مع حكومة السودان.تأسيس حركة التحرير الأريترية
وفي ذات عام تأسيس مؤتمر البجا، أثمرت رحلات ناود السرية للمدن الأريترية التي بدأها في العام 1958 عن قيام المؤتمر التأسيسي لحركة التحرير الأريترية. وعقب التأسيس عاد ناود لوظيفته في شركة التلغراف بمدينة بورتسودان وصارت حياته مقسمة ما بين الأراضي الأريترية والسودانية.حتى جاء العام 1965 ويومها تقدم ناود باستقالته من العمل ليتفرغ لنضال حركة التحرير الأريترية.
وبعد خمس سنوات قرر ناود أن النضال السياسي وحده لن يحقق للشعب الأريتري مبتغاه في الحرية. فالتحق الرجل بقوات التحرير الشعبية مقاتلاً في العام 1970 ولما له من صلات وثيقة بالسودان فقد تقلد منصب المسؤول الإعلامي لقوات التحرير الشعبية.وفي ميدان القتال لأجل أريتريا كان ميلاد رواية محمد سعيد ناود (رحلة الشتاء)، وهي أول رواية أريترية تكتب بالعربية.ومع ذلك ظلت الرواية مسودة لثماني سنوات حتى طبعت في بيروت عام 1978 وطبعت طبعة ثانية عام 2007.رئاسته للتنظيم الموحد
واستمر سعيد يتدرج في مراقي قوات التحرير الشعبية حتى صار رئيساً لمكتبها السياسي.
وقبل استقلال أريتريا بوقت وجيز ترأس ناود التنظيم الأريتري الموحد، الذي كان تحالفاً بين عدد من حركات النضال الأريتري.وقبل إعلان استقلال أريتريا في العام 1993 عبر تقرير المصير والاستفتاء، عاد ناود إلى العاصمة أسمرا.وعقب التحرير عين محمد سعيد حاكماً لإقليم الساحل، ولكن الرجل لم يتخل عن عادته القديمة في القلق وركل الوظائف، فقدم استقالته عن موقعه كحاكم، وأعلن أنه يريد التفرغ للتأليف والكتابة.مؤلفاته رفدت المكتبة العربية
وكل هذه الرحلة العامرة بالعمل السياسي الصعب، بل وحمل السلاح في ظروف قاسية، لم تمنع ناود من أن يرفد المكتبة الأريترية، بعدد من مؤلفاته مثل رواية (رحلة الشتاء)، والتي كانت أول رواية أريترية مكتوبة باللغة العربية. "ثم أصدر محمد سعيد ناود، كتاب (العروبة والإسلام بالقرن الأفريقي), وكتاب (حركة تحرير أريتريا.. الحقيقة والتاريخ)، وهو كتاب يوثق فيه لنشأة حركة تحرير أريتريا ونهجها, وعمق العلاقات العربية الأريترية.وكتب كذلك كتابه الشهير (أريتريا طريق الهجرات والديانات ومدخل الإسلام إلى أفريقيا).ولم ينس أن يوثق للمجتمع الأريتري فألف (شخصيات ورموز أريترية)، الذي نشر في العام2007م.وكان قد سبقه بكتابه حول (تاريخ الطريقة الختمية في أريتريا) الذي نشر في العام 2006م.
ونشر ناود كذلك كتابه (من أمثال الشعوب) في العام 2006م، ولديه مخطوطة رواية اسمها (المغترب) ضاعت في بيروت عندما كان يعدها للطباعة.كذلك ألف محمد سعيد ناود كتاباً حول (قصة الاستعمار الإيطالي لأريتريا)، وطبع في العام 1971 وأعيدت طباعته في العام 2007م.هذا إضافة للذكريات والمذكـرات والكتب التي أرخ فيها لأريتريا باسم (شاهـد على بعـض عصـره، صفحات هامة من تاريخنا 1941 – 1958).وهكذا طوى الموت صفحة من صفحات التلاقي بين الشعبين السوداني والأريتري، ولكنه ترك إرثاً وتجربة تدفع باتجاه رؤيته لأريتريا ومستقبلها وعمقها داخل السودان.ولعل العبارة التي ظل يناديه بها رفقاؤه في النضال الأريتري (ود ناود)، وعمقها في الدارجة السودانية، تعكس بعد الرجل وتغلغله في الذات المشتركة لأريتريا والسودان، والذي بقراءة تجربته تضاء العلاقة بين الشعبين الشقيقين السوداني والأريتري.