رحلة الحج ليست كغيرها من الرحلات ، إنها ليست رحلة بالأجساد إلى مكة حيث الكعبة وجبل عرفات ، إنها رحلة ربانية ، رحلة نورانية ، رحلة قلوب وأرواح تسعى إلى خالقها ، فتتصل بأصلها ، وتستمد القوة والحياة والسعادة ، وتتزود بالتقوى خير زاد .
قال الله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين }
آل عمران : ٩٦
روى البخاري عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله .. أي مسجد وضع في الأرض أولا ؟ قال : (( المسجد الحرام )) قلت : ثم أي ؟ قال : (( المسجد الأقصى )) ، قلت : كم بينهما ؟ قال : (( أربعون سنة ، وأينما أدركتك الصلاة فصل ، فهو مسجد )) ( مسلم بشرح النووي : ٥/٢/٥٢٠) .
إن الحاج من وقت خروجه من منزله لأداء فريضة الحج يعيش فترة خالصة لله ، خالية من مشاغل الدنيا ، يعيشها بوجدانه ومشاعره وكيانه كله ، بقلبه وعقله وجسده وماله وكل ما يملك ، وهكذا يطوع كل هذه النعم لله ولطاعة الله بعيدا عن معصية الله ، وفي هذا التطويع زاد كبير وتربية وتهذيب يمتد أثرها في حياته بعد ذلك ..
إن الحج رحلة تصل المسلم بأعماق التاريخ ، وتربطه بالنداء الأول لأبيه إبراهيم عليه السلام : { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } الحج : ٢٧
يروي الإمام القرطبي أنه بعد أن فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت ، وقيل له : أذن في الناس بالحج ، قال : يا رب ! وما يبلغ صوتي ؟
قال : أذن وعلي الإبلاغ .
صعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس ، وصاح : " يا أيها الناس .. إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ، ويجيركم من عذاب النار ، فحجوا " ، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء : ( لبيك اللهم لبيك ) ، فمن أجابه مرة فمرة ، وإن أجاب مرتين فمرتين ، وجرت التلبية على ذلك ، قاله ابن عباس وابن جبير . القرطبي : ١٢/٢٧
إنها رحلة تصله برسول الله إسماعيل عليه السلام ؛ حيث تركه أبوه مع أمه هاجر في تلك الأرض التي كانت قاحلة ؛ لا زرع فيها ولا ماء ولا إنسان ، كما يحكي القرآن على لسان إبراهيم عليه السلام : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون }
إبراهيم : ٢٧
أخيراً
إن الفيوضات الربانية أثناء هذه الرحلة المباركة ، وفي الأماكن المقدسة ، وعند أداء هذه الشعائر ، فيوضات غامرة من النور والهداية والتقوى والرحمة والسكينة ، خاصة إذا كان جهاز الإستقبال - وهو قلب الحاج - سليما نقيا نظيفا مخلصا الوجهة لله ، إنها تزود المسلم باليقين وحسن التوكل على الله ، الذي فجر الصخر بالماء لإسماعيل وأمه ، واستجاب دعاء إبراهيم عليه السلام فساق إليه أفئدة من الناس ، ورزقهم من الثمرات ، قال تعالى : { أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون }
القصص : من الآية ٥٧
وحث قريشا على شكر هذه النعمة بأن يعبدوه ، فقال تعالى : { فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف }
قريش ٣-٤