http://www.alsahafasd.net/details.php?articleid=53695&ispermanent=0 رأي(الأرشيف)
كتاب المقال محمد جميل أحمد
قومية التقري وسياسات الإقصاء بشرق السودان
من يتابع مجريات الأحداث بشرق السودان، ويرصد الطريقة التي يتم من خلالها التعبير عن السياسات القومية لولاية البحر الأحمر، سواء في بعض الفعاليات الترفيهية والسياحية مثل مهرجان السياحة والتسوق الذي تنظمه سنوياً ولاية البحر الأحمر، أو من خلال آراء بعض الباحثين، وحتى الإشارات المضمنة في الموقع الرسمي على الانترنت لولاية البحر الأحمر، يتجلى له بوضوح أن ثمة من يعمل على إقصاء قومية التقري حتى من النسيج الرمزي للولاية.
ولا شك أن تضافر عدة حيثيات دالة على ذلك التجاهل والإقصاء لا يمكن أن تأتي هكذا عفو الخاطر، أو دون رصد حقيقي لمن يبثون تلك الإشارات الإقصائية والانعزالية هنا وهناك.
فحين تأتي عبارة: «اللغات الرئيسة للولاية هي اللغة العربية والبداويت» على الموقع الرسمي لمهرجان ولاية البحر الأحمر دون أية إشارة إلى لغة «التقري» التي تتحدث بها قومية التقري، وهي قومية من أكبر قوميات الإقليم الشرقي قوامها قبائل «بني عامر والحباب»، وحين يتم حذف كلمة «أكوبام» التي هي المرادف الرمزي لكلمة «دبايوا» من شعار مهرجان الولاية، وحين يتحدث بعض «الباحثين» بقناة تلفزيون البحر الأحمر قائلين إن اللغة السائدة في الولاية إلى جوار العربية هي لغة البداويت «التي تتحدث بها قبائل الهدندوة والأتمن وغيرهم» في تجاهل واضح ومتعمد للغة التقري، سنجد أنفسنا أمام سياسة واضحة لمحاولة طمس وإقصاء الوجود الرمزي لقومية التقري عبر عدم ذكر لغتهم في مختلف المناسبات التي أشرنا إليها. والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا يتم تمرير هذه الرسائل ولمن؟
هل يحسب القائمون على أمر المهرجان أنهم بمثل هذه السياسات الانعزالية قادرون على تهميش قومية ناشطة في الحراك المجتمعي والمدني بمدن الشرق الثلاث بورتسودان وكسلا والقضارف؟ أم أنهم يحسبون أن هذه القومية، ولأنها ذات امتداد حدودي في إريتريا فهي بالتالي قد تبدو في وعيهم الانعزالي قومية دخيلة ووجودها فائض عن الوطن؟
وأيا كان منطلق تلك السياسات الاقصائية، فعلى القائمين عليها أن يدركوا تماماً أن مثل تلك الرسائل لا تجدي نفعاً، ولا يمكن أن تعكس إلا ردود أفعال سلبية على مستقبل التعايش بين مكونات الإقليم الشرقي.
كما أنهم بسياساتهم تلك يعكسون رؤية انعزالية ونقيضة لمفهوم المواطنة والحقوق الدستورية لكافة أقوام السودان، سواء تلك التي داخل الحدود السودانية، أو تلك التي يمتد وجودها إلى ما وراء الحدود.
إن مثل هذه السياسات التي تدل على عقليات اقصائية لا ترى إلا حدودها الضيقة جداً هي أحد أشكال الوعي في السودان القديم، وبمثل هذه السياسات التي تفترض حقاً متوهماً لفئة واحدة في المواطنة على نقيض حقوق الآخرين مازال السودان يتعثر في مشكلاته وأزماته التي كانت في الأساس نتيجة رؤى انعزالية للمواطنة تؤدي في النهاية إلى فرز وتهميش ستكون له ردود فعل أشبه بالقنابل الزمنية.
إن قومية «التقري» هي إحدى قوميات الهامش التي ستقف اليوم بكل ما تملك لمواجهة مثل هذه النزعات الانعزالية في وجه القائمين على مثل هذه المهرجانات، وإذا كان البعض يراهن على سياسة الإدارة الأهلية التي ينتهجها في تفتيت كيان هذه القومية وإعاقة طاقتها الخام من التمثل في قوى وطنية فاعلة، فإن مثل تلك السياسة لن تجدي نفعاً في المستقبل القريب، لأن كل أشكال الوصاية على المواطنين من خلال الالتفاف على قبائلهم للتحكم في إراداتهم الحرة لن تؤثر في تلك الطاقة إلا مؤقتاً. ولهذا حين نلفت إلى مثل هذه السياسات التي تشتغل بطريقة رمزية لتمرير قناعات العقل الباطن لأصحابها، متوهمين أنهم يمارسون تهميشاً، إنما نريد أن نقول لهم: أنتم تعيدون إنتاج التهميش الذي وقع عليكم من طرف المركز لسنوات طويلة عبر هذا الفرز الخفي الذي تمارسونه مع قومية التقري.
لقد مضى ذلك الزمن الذي أغرى بمثل هذه الممارسات، لأن أول متضرر من مثل هذه السياسات الإقصائية إنما هو النسيج الوطني والتعايش السلمي والحقوق المشروعة للمجموعات السودانية المتنوعة.
ومن جهة أخرى فإن هذه الممارسات تعكس حالة من حالات غياب الاندماج في الهوية البجاوية. فحين نجد القائمين على رأس الولاية يمررون مثل هذه الإشارات وهم يعرفون تماماً أن ذلك عمل مخالف لحقوق المواطنة لا سيما تجاه قومية تشاركهم العيش والانتماء لإقليم البجا عبر آلاف السنين، فإن ذلك بطبيعة الحال هو تفتيت للهوية البجاوية وممارسة من ممارسات العزل القومي لتلك الهوية.
وندرك تماماً أن الاندماج في الهوية البجاوية بطرفيها «البداويت والتقري» هو الغائب الأكبر لأسباب جيوسياسية وقعت على هذه المنطقة وكانت أكبر من قدرات التحدي لشعب البجا الذي عاش سنوات طويلة في عزلة الجهل والتهميش والقبائلية بما جعل تلك الشروط القاسية في فضائه الجغرافي والتاريخي سبباً لتهميشه من قوى المركز، وإذا لم يدرك البجا هذه الهوة التي تعيق اندماجهم وتستغلها جهات عديدة، فإن مثل هذه السياسات ستظل هي إحدى الظواهر السلبية الدالة على غياب ذلك الاندماج.
ولا نذيع سراً حين نقول إن ما يتم تمريره من رسائل عبر هذه السياسات الإقصائية هو شكل من عدم القدرة على استيعاب فكرة المواطنة بوصفها قيمة حقوقية عابرة للأقوام والأعراق في الدولة الوطنية الواحدة. وإن مثل هذه السياسات لا تجدي في التقليل من تلك القيمة بالطبع، ولا تعبر إلا عن توجه ضيق وغير ناضج.
إن الاحساس الذي يتوهمه البعض في التشكيك باستحقاق المواطنة لقومية التقري بسبب امتدادها الحدودي مع إريتريا، هو ضرب من التشكيك في قيمة المواطنة ذاتها، ونوع من استعادة متوهمة للنزعات غير الوطنية التي سادت أيام دكتاتورية جعفر نميري حيال قوميات السودان المهمشة كالهوسا وغيرهم. بالإضافة إلى أن تلك السياسات تعبر عن ضيق أفق بالرؤية الاستراتيجية للأمن القومي بشرق السودان. فقومية التقري بما لها من امتداد متجانس عابر للحدود، وبما تتميز به من روح التعايش السلمي والقابلية الفائقة للتحضر والاندماج في كل من السودان وإريتريا، هي أكبر ضمانة للتعايش الاستراتيجي بين السودان وإريتريا.
وهكذا يمكننا فهم التناقض الذي يقع فيه بعض مثقفي البداويت حين يخضعون لبعض الأوهام الشعبوية في تمرير ذلك الفرز الذي يتوهمون من خلاله قيمة مضافة في استحقاق المواطنة على قومية التقري، بناءً على فكرة الحيازة التاريخية للأرض المحلية، دون أن يدركوا أن الجغرافيا السياسية هي ملك سيادي للدولة ضمن حدودها في خريطة العالم، وأن المواطنة لكل فرد في تلك الدولة تصبح حقاً طبيعياً له ولو كان له شبر واحد فقط في أرض تلك الدولة.
وحين نقرأ مثل هذه المعلومات على موقع مهرجان البحر الأحمر للسياحة «ولاية البحر الأحمر تنقسم إلى عشر محليات منها طوكر وعقيق»، ثم نعرف أن سكان جنوب طوكر إلى حدود قرورة وسكان محلية عقيق هم غالبية مطلقة من قومية التقري التي تتحدث بلغة التقرايت، عندها سندرك الوهم والرؤية الانعزالية التي وقع فيها منظمو مهرجان ولاية البحر الأحمر للسياحة بحذف كلمة «أكوبام» التي تعني «السلام» بلغة التقري من شعار مهرجان ولاية البحر الأحمر، وكذلك حذف لغة التقري من لغات السكان المحليين بتلك الولاية.
أما الأخطر من ذلك فهو غياب مركز لدراسات لغة التقري، أسوة بدراسات اللغة البجاوية في جامعة البحر الأحمر.
وتملك قومية التقري اليوم في الإقليم الشرقي حراكاً اجتماعياً نشطاً، وتتوسط النسيج الاجتماعي لمكونات المدن الثلاث في كل من بورتسودان، كسلا والقضارف. ولأنها إحدى قوميات الهامش التي عانت عقوداً من التهميش مع إخوانهم البداويت، فإن أية محاولة للاستقطاب والفرز على الهوية الذي يجري ضمن سياسات الأمر الواقع في السودان كردود فعل لفشل السلطة في تحقيق شروط المواطنة الحقة بين جميع مواطنيها، سيؤدي على المدى البعيد إلى اهتزازات خطيرة للتعايش السلمي.
ولن يكون هناك مخرج للسودان الذي انقسم بفعل الفرز على الهوية، وربما مازال مرشحاً للانقسام، إلا بالاعتراف الحقيقي بشروط المواطنة بوصفها قيمة تشترك فيها جميع مكونات شعوب وأقوام السودان على مستوى واحد من الحقوق والواجبات. وإن مواجهة وفضح وإدانة تلك السياسات الانعزالية القائمة على الفرز والتهميش الرمزي لقومية التقري من بعض متنفذي ولاية البحر الأحمر، هي من أهم الواجبات الأخلاقية لمثقفي البجا والمستنيرين منهم.. فمن عرف التهميش والإهمال والإقصاء لا بد أن يعرف الطريق إلى الخروج من ذلك النفق، وبوعي جديد قائم على النضال من أجل حقوق المواطنة الشاملة في دولة ديمقراطية تكون دولة لجميع مواطنيها، بحيث يستمتع من له شبر فيها بكل شبر فيها.
وطال الزمن أو قصر سيدرك مثقفو البجا والمخلصون من أبناء هذه القومية بشقيها «البداويت والتقري» أن الاندماج هو التحدي الأكبر الذي سيطرح عليهم رهانات قاسية لتخطي أزمة الثقة من أجل مواجهة إشكالاتهم التاريخية المركبة كأمة يربط بينها مصير مشترك مهما توهم الانعزاليون ــ من الطرفين ــ خلاف ذلك.
إن أولى الواجبات التي يفرضها الوعي النظري العميق لبنية مجتمع البجا وتحدياته المستقبلية، هي الاستجابة للنضال المدني الحقيقي، من أجل المواطنة والحقوق الثقافية وتكافؤ الفرص واحترام التعايش والاندماج من خلال سياسات بينية لعمل مدني منظم يجعل من الحقوق المشروعة في المواطنة سقفاً لمطالبه في العيش الكريم والحرية والعدالة.
وكل من لا يدرك تلك الاستحقاقات العادلة لشعب البجا بشقيه، أو لا يرى فيها خلاصاً حقيقياً، عليه أن ينظر في ما حوله اليوم من أوضاع مأساوية راكمتها عقود طويلة من التهميش والإهمال والجهل والفقر والمرض، حتى أصبحت بيئة سائبة لمفاعيل السياسات الجهوية والانعزالية التي تحالفت على هذه الأمة.
وتلك الأوضاع المأساوية التي يعيشها البجا اليوم هي الجواب المفحم لكل انعزالي موهوم بالحدود الضيقة لهويته القبلية، أو لجماعته الخاصة، دون أن يدرك أن هذا الواقع المزري للبجا هو نتيجة حصرية لتفرقهم وعصبياتهم الضيقة.
وصدق من قال: «عندما لا تستطيع أن تحدد أهدافك فأنت تخدم أهداف الآخرين».