د.هاشم الخليفة
.
25 يونيو 1895م ... آخر يوم في مملكة الحباب الموحدة
.
زهرة الجُريْس الأزرق ... من الزهور المفضلة عند الإيطاليين ... فاللون الأزرق له وقع لطيف على النفس ... لأن من دلالاته الصفاء ... كما أن شكل الزهرة الذي يشبه جرس كنيسة الفاتيكان ... يضاعف من عشق الإيطاليين لهذه الزهرة ... من كل ذلك ... فباقات أزهار الجُريْس الأزرق الطبيعية ... تأخذ موقعا متقدما في تصنيف الهدايا التي تُهدى في المناسبات والمواسم الإيطالية
.
لكن ما علاقة أزهار الجُريْس الأزرق ... واستحقاق آخر يوم في مملكة الحباب الموحدة ؟ ... هذا السؤال ... برز في ذهن الكولونيل الإيطالي بارتيري وهو يطالع تقرير فريق المساحة المكلف بتقسيم الحدود بين النفوذيْن الإيطالي والأنجلومصري في فبراير 1895م
.
فمهندس المساحة الإيطالي ... الضابط تنتي ميني وفريقه المساعد ... عندما وصلوا إلى ارتفاع 2200 متر فوق سطح البحر على مرتفعات هجر ... وقفوا مندهشين لما رأوه من المناظر الطبيعية الخلابة ... ويزداد معدل الدهشة عند الضابط تنتي ميني وهو يرى على امتداد بصره وفي جميع الاتجاهات ... الملايين من أزهار الجُريْس الأزرق ... وأكثر ما يضاعف تلك الدهشة ... أن أغنام الحباب تنتشر في هذه المساحات ... ولا عمل لها سوى قصم أزهار الجُريْس الأزرق .. قصما ... والتلذذ بطعمها
.
الضابط تنتي ميني ... يتعاطف مع أزهار الجُريْس الأزرق ... التي تواجه هذا النوع من أنواع التطهير العرقي ... والإبادة الجماعية ... التي تنفذها عنوة أغنام الحباب ... وتتضاءل درجة التعاطف عنده ... بل تنكمش وتتلاشى ... عندما تمارس دولته ... التطهير العرقي ... والإبادة الجماعية ... لأصحاب الأغنام ... فالضابط الإيطالي .. نسي أنه في موطن من مواطن الوفرة ... أماكن العرض الخرافي والطلب الصفري ... الوفرة التي من بعض مظاهرها ... (عود الصندل في بلده .. يوقدوا بيهو النار)
.
إذن ... الضابط تنتي ميني ... لم يبتدئ كتابة تقريره عن تقاطعات خطوط الطول والعرض وأماكن وضع الأوتاد والخوابير التي تشق الأرض .. بل ذهب في وصف المكان وطقسه خلافاً لما هو مألوف في كتابة التقارير الرسمية ... تقرير لافت للنظر ... فعبقرية المكان كانت سيدة الموقف وكانت المسيطر على حالة الضابط وهو يكتب ... فإن تشبث الضابط تنتي ميني بهذا المكان وهو لم يمكث فيه سوى سويعات ... فما بال من مكث فيه أعواما ... وحكومة تنتي ميني تضعه أمام خيارات ... أفضلها ... الابتعاد عن هذا المكان ... تنفيذا لسياسة فرق تسد ... التي يشرع الضابط تنتي ميني في تجهيز الملعب لها على الأرض ... الآن
.
فرق تسد ... من الأساليب اللاأخلاقية التي تكمن في ذهنية المستعمر الأوربي كمون النار في العود ... منذ عصر مبتدعها ... أرسطو ... عندما استشاره الأسكندر الأكبر في فتح بلاد فارس والسيطرة عليها (356-323 ق.م) ... استشارة ... لا تحسب لصالح المفكر العظيم ... لكن ... ومنذ تلك الآونة ... عمل الأوربيون على تطوير هذه السياسة وابتكروا لها ما شاءوا من الفرائض والسنن والنوافل ... وأصبح في طوعهم التفريق بين مكونات قوة الخصوم وتفتيتها وإن عظمت ... وعناصر القوة التي كان يرتكز عليها الاتحاد المكون تحت قيادة كنتباي حامد حسن ومن خلَفه في مواجهة الأوربيين ... كانت مرصودة بالخبراء المختصين في جميع المجالات ... إذن ... لا يمكن أن تكتمل السيادة للمستعمر ما لم يعمل جاهدا على تفكيك كل مفاصل القوة الاجتماعية والدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها من الهواجس. هذا هو العمل في غرف العمليات المغلقة تنظيرا ... ثم عمليا على الأرض ... مقرونا بالقمع والإرهاب والنفي ... والقتل ... لكن يبدو أن مناعة الحباب وشركائهم كانت في قمة النشاط ... وهم يواجهون أصنافا شتى من أساليب إضعاف الآخر ... لإلغائه ... علمتهم التجارب ... كيف تكون مواجهة الصعاب ... ومواجهة الموت ... وربما في بعض المراحل ... ترعرع حب الاقتتال في أنفسهم ... وتشعب ... وصار الاحتراب جزءا من حركة الغبار اليومي عندهم ... فتارة على العدو ... وأخرى على أنفسهم ... كما قال الشاعر القديم: (وأحيانا على بكرٍ أخينا ... إذا لم نجد إلا أخانا) ... لكن مهما يكن من أمر ... فعلى الحباب مواجهة الكثير من المتغيرات ... عبر الزمن ... متغيرات بملامح مختلفة
.
فمنذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي .... تحديدا في عام 1557م .... بعد حوالي الخمسين عاما من تأسيس السلطنة الزرقاء .... وبعد حوالي 77عاما من اعتلاء أسقدي سدة الحكم في مملكة الحباب ... بدأ الغليان في المنطقة الشرقية من السودان و المنطقة الغربية من إرتريا ... وهي المنطقة التي تقطنها معظم القبائل الناطقة باللغة التجرية ... مدة تقدر بحوالي 350 سنة حتى تقسيم دولة الحباب في 1895م ... والمنطقة المذكورة ما زال في نفسها شيء من ذلك الغليان ... بل أشياء كثيرة ... كما قد يرى البعض من أمة التقري
.
نحاول سبر أغوار فترة ال 350 سنة لنرى اسقاطاتها على سكان المنطقة ... ثم دواعي تكتل اتحاد الحباب وغيره من التكتلات ... فترة ال 350 سنة ... هي المناخ الذي يعيش فيه الحباب وغيرهم ... أحيانا قد يستفيض الكاتب في ذكر الأخبار وتحليلها ... أو قد يكتفي بالإشارات على جهة العموم أو يكتفي بالأسئلة ... ويترك للقارئ أن يكمل من خلال قراءته الموازية ... أو يبحث لإكمالها لاحقا ... فالموضوع الأساسي هو إجابة عامة لسؤال عام هو : ما هو وصف حالة المناخ العام وأثر تلك الحالة على دولة الحباب أو اتحاد الحباب ... من عهد أسقدي ... إلى 25 يونيو 1895م؟
.
ملامح من القرن السادس عشر
.
1557م ... هو العام الذي انتصر فيه القائد التركي سنان باشا على الأسطول البرتغالي بقيادة دون جوان دي كاسترو ... لكن الأتراك لم يكتفوا بحراسة مينائي مصوع وسواكن ... بل توغلوا بنفوذهم إلى داخل اليابسة على امتداد الساحل بين الميناءين ثم إلى المرتفعات الإرترية وشيدوا القلاع العسكرية في دباروا ومدينة سراي وغيرهما ... لكن ... هل يوجد البرتغاليون على اليابسة أم أنها أطماع أخرى؟ ... أهم ما قام به الأتراك على الأرض هو التجنيد القسري لابناء التقري ... لمواجهة العدو حسبما تحدده النوايا والأطماع المستقبلية ... ومن جانب آخر ... كانت هناك حركة متزامنة من السلطنة الزرقاء لوقف التمدد التركي ... حيث تم حشد جيوش السلطنة في مناطق القاش وسيتيت ومنخفضات بركة تحسبا لتحركات الأتراك ... ولما لم يكن للسلطنة الزرقاء جيشا نظاميا تحركه في مثل هذه المهام ... اعتمدت على جيش قوامه ابناء التقري في مناطق القاش وسيتيت ومنخفضات بركة ... ومن جانب ثالث ... أثار تحرك الأتراك والسلطنة الزرقاء ... أثار قلق رؤوس التقراي وجعلهم يسعون في جميع الاتجاهات لتوسيع دائرة نفوذهم بهدف التأمين ... كل ذلك يؤدي إلي القلق ونزع الاطمئنان من النفوس ... بوادر انعدام الأمن بسبب تلبد السماء بنذر ويلات اشتعال الحرب في أي وقت ... تجعل الإنسان واقفاً على أمشاط رجليه ... دوما ... للتنقل والابتعاد ... من المناطق الموبوءة بجراثيم الحرب ... إذن ... 1557م ... كان بداية نقر ناقوس الخطر في المنطقة التي تقطنها كل تجمعات التقري
.
ويمكن القول ... إن هذه الفترة كانت بداية لتسريب الأسلحة النارية دون رقيب ... فالمنطقة المذكورة على امتدادها من الشمال للجنوب .... والشرق للغرب ... لا تخضع لأي سلطة مركزية يمكن أن تتدخل لتسيطر على الأوضاع حالة تزعزعها ... سلطة السلطنة الزرقاء كانت اسمية وضعيفة ولا تتدخل إلا إذا شعرت بأن التهديد سيطال العرش السناري ... لذلك أفضت هذه الحالة إلى بداية قيام التكتلات القبلية بشكل مقصود ومحكوم باتفاقيات أهلية ... اشتهرت بها كيانات الشرق ... لكن من ضمن تلك التكتلات ... هناك تكتلات عصابات القيمان ... وتكتلات عصابات الشفتة
.
ملامح من القرن السابع عشر
.
عصابات القيمان ... وعصابات الشفتة ... من أكثر عوامل زعزعة الاستقرار النفسي ... وربما حتى الآن بشكل من الأشكال ... عصابات القيمان كانت تتحرك في مناطق القضارف والبطانة ونهر عطبرة وتتجه نحو نهر النيل ... الإنقرياب شمال بربر ... لهم تاريخ حافل في أعمال القيمان ... حسبما أورده المؤرخ محمد عبد الرحيم في كتابه ... (غارات الإنقرياب) ... وقد أرخ لبدايتها في حوالي 1620م ... وفي حوالي ذات التاريخ وقبله بقليل ... يؤرخ آخرون لبداية أعمال الشفتة المسلحة ... التي تنشط في محيط دائرة الشرق ... وتكمن خطورة الشفتة في بعض قادتها الذين كانوا من النبلاء الميسورين ... أصحاب الأطماع السلطوية ... لأن مع مرور الزمن ... تطورت قيادات الشفتة إلى ملوك ورؤوس ... وهم الأكثر دموية في تاريخ الشمال الأثيوبي والأقاليم المتاخمة ... فالوثائق تشير بأصابع الاتهام إلى الإمبراطورين يوهانس ومنليك في الشمال الإثيوبي ... ولا يفلت من ذلك الإتهام ... البهاتا هكوس ... ذو التاريخ الناصع في مواجهة الطليان ... ويمكن أن نرى التطلع والطموح في رسالة دباب ... من الشفتة ... وهو شقيق قائد التقراي الرأس الولا ... دباب كتب الرسالة الآتية للإنجليز في عدن : ( اتفقت مع الطليان على أن يكون كامل ولائي لهم ... وفي المقابل أن أكون الرئيس الأوحد في شمال أثيوبيا – يقصد منطقة التقراي- وأن تكون كل الرعايا الإيطالية/الأثيوبية تحت إمرتي ... لكن الطليان عينوا آخرين مما سبب لي الكثير من الغضب ... وتركتهم) ... انتهى ... دباب يعرض خدماته للإنجليز ليكون حاكما ... ويمكن ملاحظة الفرق بين أنواع التكتلات ... تكتلات القبائل قوامها القبيلة ومن اتحد معها من بقية القبائل ... وهذه تكتلات قوية وراسخة ... أما تكتلات الشفتة فقوامها الخارجين عن القانون من أهل الدوافع النفسية والشخصية .... (في مقال سابق عن كنتباي حامد حسن ... أشرت إلى أنه آوى إليه دباب والبهاتا هكوس كمعارضيْن لنظام الرأس الولا). ... أما الرجرجة من عصابات الشفتة ... فهذه لا حصر لها مع غياب القانون وغياب سلطة الدولة ولكنها من العوامل التي أدت إلى التكتل وبداية ظهور الاتحادات القبلية.
.
الحباب كغيرهم ... تعرضوا لأعمال الشفتة ... وأكثر الأضرار حاق بهم وجيرانهم البلين جراء غارات هجمات الرأس الولا ... لكنهم توصلوا إلى حلول من خلال تسويات مالية
.
ملامح من القرن الثامن عشر
عصر الفوضى الكبرى في الحبشة ... العهد المظلم ... زامانا ماسافينت ... عصر سيادة القضاة أو الأمراء أو النبلاء عندما تجزأت الحبشة إلى مناطق صغيرة لا تخضع لسيطرة مركزية ... تجيء بداية هذه الفترة مع بداية حكم إياسو في 1755م ... وتنتهي بتتويج الإمبراطور ثيودورس في 1855م ... ومن أهم معالم هذه الفترة ... انهيار السلطة المركزية في الحبشة وظهور قيادات مستقلة تتصارع وتتطاحن في عدة جبهات مما أحال كل الحبشة إلى منطقة غير آمنة ... وطاردة لأهلها ... 100 سنة من الفوضى الكبرى والظلام ... فالبرغم من أن تفاصيل أثر تلك الفترة السالب على الواقعين السياسي والاجتماعي في الحبشة لا يعني هذا المقال ... لكن امتداد أثر الفوضى على حياة كيانات التقري المجاورة للشمال الأثيوبي ... هو ما يستحق التوقف عنده ... فكيانات التقري في المنخفضات الغربية لإرتريا ... عانت الأمرين جراء تدفق النازحين وملاحقات مرتكبي الجرائم الهاربين من القانون ... المكان كان مسرحا للعمليات العسكرية العشوائية والتي كثيرا ما تنحرف من مهامها الرسمية لتجد منافع لها في عمليات السلب ونهب المواشي وغيرها ... والحال هذه ... برزت مجموعات من التقري أنفسهم تمارس النهب الجماعي ... خطورة هذه مجموعات التقري تكمن في كونها تجد التشجيع والحماية ... من رؤساء وشيوخ القبائل الذين لهم جعل معلوم من الناتج ... رغم ذلك ... من ايجابيات عهد الفوضى ... أن الكثير من قبائل التقري بدأت تتكتل في مجموعات كبيرة ... لمواجهة التحديات ... بيد أن أمر هذه الفوضى كان مختلف جدا مع كيانات الحباب ... أو مملكة الحباب
.
مملكة الحباب تقع بعيدا عن مجريات الأحداث في الشمال الأثيوبي ... لكن الحروب تقطع المسافات وتسري في البلدان كما النار في الهشيم ... فبين الشمال الأثيوبي ومملكة الحباب هناك كيانات التقراي والحماسيين وغيرها ومعظمها على عداء ... مع الحباب في الشمال ... والحبشة في الجنوب ... هذه المعطيات حركت ملك الحباب ... شوم هبتيس ود مفلس ليدخل في شراكة عسكرية ذكية مع نقاشي أثيوبيا ... إياسو (1730-1755م) ... (معلوم أن بداية عهد الفوض الكبرى يبتدئ بعهد إياسو) ... بموجب هذا الاتفاق العسكري تم تكريم شوم هبتيس ود مفلس ومنحه لقب (كنتباي) ... إذن فهو أول من تشرف بهذا اللقب استحقاقا ... والأكثر أهمية ... بموجب هذه الاتفاقية استطاع كنتباي هبتيس تأمين مملكته من هجمات التقراي والحماسين ... جراء هذا التأمين العسكري فلا بد أن يكون الاستقرار هو السمة السائدة في مملكة الحباب .... ولا شك أن الاستقرار هيأ لهم الظروف المناسبة للتنمية الاقتصادية في مجالات الزراعة والرعي والتجارة وذلك جعل من مملكتهم رقما مهما في الإقليم ... تجددت هذه الاتفاقية مع الحبشة في عهد ملك الحباب أزاز ود فكاك ود هبتيس وكانت فترة حكمه بين (1750 و 1790م) ... شوم أزاز هو الآخر تم تكريمه بمنح لقب كنتباي ولقب بحر نقاس (أي ... الملك بجهة البحر) ... إذن ... كنتباي أزاز بحرنقاس يحقق المزيد من الاستقرار لمملكة الحباب ... وخلاصة الأمر ... بهذه الاتفاقيات الإقليمية ... تم تأمين مملكة الحباب من هجمات التقراي والحماسيين والأحباش ... وتفادوا الكثير من سلبيات عهد الفوضى في الإقليم .... وترتب على ذلك أن الحباب واجهوا الظروف اللاحقة من خلال مملكة قوية عملت كنواة لتشكيل ... الكيان القوي ... إتحاد الحباب ... وما يمكن ملاحظته ... أن فترة الاستقرار ... هي الفترة التي ينشط فيها الطامعين في الحكم من الحباب ... لاعتلاء قمة السلطة ... وبالضرورة أن تسفر جراء ذلك الكثير من الدماء ... لكنه شأن داخلي ... غير مفيد لهذا المقال
.
ملامح من القرن التاسع عشر
.
البعد الأجنبي هو السمة المميزة لهذه الفترة ... اتسعت دائرة الحرب بين المصريين في السودان وجارتهم اثيوبيا ... لكن المقال معني بظلال الحرب على منطقة الكيانات التقرية عامة ... والحباب خاصة
.
في حربهم ضد الحبشة بقصد السيطرة عليها ... اهتم المصريون بتجهيز القادة والعتاد ... لكن الجيش ... جميعه من ابناء التقري على ما سنرى
.
أول فرقة مصرية (تقرية) تكونت من 1200 جندي في 1874م ... كونها محافظ التاكا ... موزنجر باشا السويسري وتدربت في كسلا ثم قادها عبر إقليم الدناكل إلى كرن ومنها إلى الداخل الأثيوبي ... هذه الفرقة لم تتورط في حرب الأحباش ... وانسحبت تاركة ورائها حامية صغيرة لحماية الكنيسة الكاثوليكية في كرن
.
في موقعتي قوندت 1875م وجودا 1876م انتهى الصراع بانتصار اثيوبيا وراح ضحيتها المئات من الجنود المصريين (التقري) ... إضافة للتبعات المختلفة الأخرى ... أهمها انتقام الأحباش من الكيانات التي حاربت بالوكالة عن المصريين .... تمثل ذلك في غارات الراس قبرو حاكم هماسين على مناطق التقري وكان مدعوما من امبراطور اثيوبيا ... غارات لم يفلح موزنجر في صدها ... تلتها غارات أخرى على إقليم التاكا ... قام بها كل من دجاج هايلو حاكم إقليم هماسين وولد مراج حاكم عدي أبو ... ولم تفلح نقطة المقاومة التي أنشأها حكمدار السودان جعفر مظهر في بلدة كوفين شرقي كسلا ... لم تفلح في إيقاف غارات الأحباش وحلفائهم من الحماسين على مناطق التقري ... لذلك شهدت هذه الفترة المزيد من التكتلات القبلية ... بالأخص التكتل بقيادة كنتباي حامد حسن
.
أحداث كثيرة ومتلاحقة واضطرابات متنوعة شهدتها منطقة التقري ... ومن تلك ... الجنود المصرية التي انسحبت من السودان عقب استيلاء المهدي على الخرطوم 1885م ... هذه الجنود خرجت من السودان عبر ميناء مصوع تحت الحماية الأثيوبية وفقا لاتفاقية هوايت 1884م ... بموجبها تترك مصر كل أسلحتها الثقيلة للأحباش ... لكن ماذا فعل الأحباش بتلك الأسلحة بعد مغادرة المصريين؟
.
وتتلاحق الأحداث ... بدخول ايطاليا مصوع 1885م ووجود الانجليز في سواكن في ذات الوقت ... وحروب المهدية في المنطقة في الفترة مابين 1883م و1891م ... كل ذلك يشكل امتدادا لكل مظاهر الفوضى والاضطراب في المنطقة
.
الحباب والمهدية
.
مشاركة الحباب في المهدية معلومة ... لكن تظل كثير من الأسئلة عالقة ... أسئلة تتعلق بفهم حجم تلك المشاركة وما يكمن ورائها من أسباب ... فالأسئلة تنطلق من عدة ثوابت معلومة ... ومن تلك الثوابت ... فلا يمكن أن يقول قائل إن كيانات الشرق جميعها كانت على قلب رجل واحد تحت قيادة الأمير عثمان دقنة ... فالحرب ليست دائما بالسلاح ... هناك الصراع السياسي بين الأمير عثمان دقنة والمصريين حول استمالة القبائل ... كل يريد استمالة شيوخ القبائل نحو معسكره .... فماذا يملك الأمير ... لجذب شيوخ البجا؟ هل الفكرة المهدية - (جنات عثمان دقنة) - وحدها تكفي؟ هل دور المجاذيب هو الأكثر فاعلية في الشرق ... أم دور المراغنة؟ ... هل الجيوش التي أرسلها التعايشي من أم درمان تكفي لحسم المعارك؟ هل يملك الأمير الأموال التي تؤهله للعمليتين السياسية والحربية؟ وغيرها
.
من جانب آخر ... فالمخابرات المصرية لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي ... لا بد من دور لها في منع التكتلات مع الأمير ودور آخر في فركشة التكتلات التي تمت ... فللمخابرات المصرية ميزانياتها المخصصة لمقابلة هذه التطورات ... ولها علاقة مع شيوخ القبائل ... والأكثر أهمية علاقتها مع المراغنة ... وإذا حاولنا فحص الدور السياسي للأمير عثمان دقنة مع الكيانات الكبرى في الشرق ... نلاحظ الآتي:
.
- قطع العلاقة مع قيادات الختمية ... نرى ذلك في خطاب الأمير ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺩﻗﻨة ﻟﻠﺨﻠﻴﻔة ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺘﻌﺎﻳﺸﻲ : (ﻭﻓﻲ ﻏﺮﻩ ﺭﺑﻴﻊ أول ﺣﻀﺮ ﻣﻦ ﻣﺼﺮ أﺣﺪ ﻣﺸﺎﻳﺦ ﺍﻟﺨﺘﻤﻴة ﻮﻳﺴﻤﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﺳﺮ ﺍﻟﺨﺘﻢ ﺍﻟﻤﻴﺮﻏﻨﻲ لإﻃﻔﺎﺀ ﻧﻮﺭ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻲ ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻨﺎﺱ آنذاك ﻳﺪﺧﻠﻮﻥ ﻓﻲ ﺩﻳﻦ ﺍﻟﻠﻪ أفواجا ﻭﻳﻠﺠﻮﻥ أﻓﺮﺍﺩﺍ وأزواجا ﻓﺒﻤﺠﺮﺩ ﺩﺧﻮﻟﻪ ﺳﻮﺍﻛﻦ ﻛﺘﺐ ﻫﻮ ﻭﺧﻠﻔﺎﺋﻪ ﻛﺬﻟﻚ إلي ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﺮﺑﺎﻥ ﻛﺘﺒﺎ ﻳﺨﺒﺮﻭﻫﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﺑأﻥ ﻫﺬﺍ ﺍلأﻣﺮ ﻟﻴﺲ إﻻ ﻓﺘﻨﻪ محضة ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﻬﺪﻳة ﻭﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﻳﺤﻠﻒ ﻋﻠﻲ ﺍﻟﻤﺼﺤﻒ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ أن ﺍﻟﻤﻬﺪﻱ ﻟﻢ ﻳﻮﻟﺪ ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻇﻬﻮﺭﻩ ........ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭ ﺿﺎﻝ ﻣﻀﻞ ﻣﺎ أﻇﻦ ﻋﻠﻲ ﻭﺟﻬﻪ ﺍﻻﺭﺽ أﺣﺪ أنكر ﻣﻨﻪ ﻟﻠﻤﻬﺪﻳة ﻭﻻ أخوه ﻋﺜﻤﺎﻥ ﻭﻻ ﺧﻠﻔﺎﺋﻪ ﻭﻻ ﺍﺑﻦ ﻋﻤﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻜﺴﻼ ) ... ومن ذلك ... قطع العلاقة مع المراغنة وخلفائهم بالضرورة أن تؤثر على علاقة الأمير مع كيانات الشرق التي ترى في المراغنة ما لا يراه الأمير ... الكثير من كيانات الشرق لابد أن تسقط نفسها من حسابات الأمير بموجب هذا الإجراء
.
- البشاريون ... شاركوا في البداية ... 1883م ... ثم ابتعدوا ككيان وشاركوا كأفراد
- الكميلاب شاركوا بفاعلية ولكنهم ابتعدوا عن المشاركة ... بعد أن قتل عثمان دقنة زعيمهم القوي أوهاج حسن أبو زينب ... وربما تكون هناك مشاركة أفراد
- الأمرأر والعتمن شاركوا بفاعلية في البداية ... لكن بعد أن قتل عثمان دقنة زعيمهم ... كونوا جيشا بقيادة محمود أبو علي قولاي ... ودخلوا في حروب متعددة مع عثمان دقنة ... انظر كتاب عثمان دقنة لخليفة المهدي: (إن ﻣﺤﻤﻮﺩ ﻋﻠﻲ ﻭﻣﻦ ﻣﻌﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻠة ﺍلأﻣﺮأﺭ ﺍﻟﻤﻠﺤﺪﻳﻦ ﻗﺪ ﺑﻠﻐﻨﺎ أنهم ﻗﺮﻳﺒﻮﻥ للإﺳﻼﻡ ﻭﻣﺎﺋﻠﻮﻥ ﻟﻠﺘﺴﻠﻴﻢ ﻟﻠﻤﻬﺪﻳة)
- بني عامر ... حاربوا المهدية في كسلا بقيادة السيد البكري الميرغني ... ثم حاربوا عثمان دقنة وهزموه ... لكنهم شاركوا في البحر الأحمر ومنهم قيادات
- كتلة الحلنقة كانت مع جانب المراغنة لكنها شاركت كافراد
- كتلة الأرتيقة كانت مع جانب المراغنة
- في 1885م قام عثمان دقنة بسجن شيخ الهدندوة في كسلا .... سبب ذلك أن شيخ الهدندوة كان على خلاف مع محمد علي دقنة وهو الحاكم الذي عينه عثمان دقنة على كسلا ... أدى ذلك الخلاف لسجن شيخ الهدندوة ومن ثم ثار أتباعه واقتحموا السجن وخلصوه عنوة ... هذه من الثورات الكبيرة ضد عثمان دقنة ... ترتب عليها مقابلة شيوخ الهدندوة للتعايشي ... ونتج عن ذلك إيفاد الحاج محمد أحمد أبو قرجة أميرا للشرق على أن يكون الأمير عثمان دقنة قائدا للجيش
.
مما سبق ... يبرز السؤال التالي ... من كان يحارب مع الأمير عثمان دقنة في الشرق بالرغم من تخلي الكيانات الكبيرة عنه؟
.
الإجابة على هذا السؤال ... تتطلب فحصا دقيقا لعلاقة كنتباي حامد مع عثمان دقنة من واقع المعطيات التالية :
- استمرار كيان الحباب في الحرب مع عثمان دقنة ... منذ بداية ثورته ... وحتى نهاية نشاطه في الشرق ... ونشاطه في أم دبيكرات 1899م
- المكاتبات بين الخليفة عبد الله وكنتباي حامد
- الوثائق تشير إلى أن عثمان دقنة كان مختبئا في أرض الحباب لمدة 42 يوما
- اتهام المخابرات الإنجليزية والإيطالية لكنتباي حامد بالوقوف مع المهدية
- علاقة كنتباي حامد مع أبي قرجة
- سقوط توكر في يد الإنجليز في مارس 1891م جاء متزامنا واعتقال كنتباي حامد وكنتباي هداد
- بعد سقوط توكر في يد الإنجليز ... تحرك عثمان دقنة إلى نهر عطبرة ... والوثائق تشير إلى أن الكثير من اتباعه تدفقوا في أرض الحباب (؟؟؟)
- استمرار الكنتب بعد كنتباي حامد في دعم المهدية
- إعدام كنتباي حامد بسبب المهدية ... وإعدام كنتباي هداد لذات السبب
.
وسؤال آخر ... من أين كان يجد عثمان دقنة التمويل؟ ... التعايشي لا يملك شيئا ... والقبائل تخلت عن عثمان دقنة ... والحباب يرمون بثقلهم في الحرب .... فالإجابة على هذا السؤال تتطلب المزيد من البحث والفحص الدقيق للدور الذي كان يلعبه ... همد ود حسن شقيق كنتباي حامد ... هذا الرجل كان بمثابة وزير المالية في عهدي كنتباي حامد وكنتباي هداد ... كان مسؤولا من تحصيل الأموال وإدارتها في مملكة الحباب ... إيرادات الصادر والوارد عبر ميناء تكلاي ... رسوم نقاط تأمين سير القوافل في أرض الحباب ... من تكلاي للقضارف ومن تكلاي لكسلا عبر أرض الماريا والمنسعتين ... وغير ذلك من الموارد ... خلاف ذلك ... بعد إلقاء القبض على كنتباي هداد ... تم إسناد إدارة الحباب لهمد ود حسن ... محمود كان في سجن عصب ... لكن يبدو أن الطليان لم يطمئنوا لإدارة همد ود حسن ... وسارعوا بتصيب كنتباي محمود ... مهما يكن من أمر ... همد ود حسن لا بد أن يفهم دوره في تمويل المهدية ... ويزيد الأمر تعقيدا ... موته مقتولا
.
ربما حتى الآن تبرز في الأفق حجم مشاركة الحباب في المهدية ... ولكن لا بد من سؤال افتراضي لتحديد سبب المشاركة ... ونمهد لذلك ... بأن هناك سابق معرفة وربما تجارة مشتركة بين كنتباي حامد والأمير عثمان دقنة ... عثمان دقنة اكتسب خبرة عسكرية من خلال مشاركته مع أحمد باشا عرابي في معركة التل الكبير ضد الإنجليز في مصر في 1882م ثم عاد لينضم للمهدية ... وعثمان دقنة ... لم يستند على سند من قبيلة معينة ... ولكن استمد قوته من علمه ومقدراته الخاصة ثم من إمارة المهدية وعموم كاريزميته .... وكنتباي حامد حسن ... رجل دولة ... دولة بعاصمتها ومينائها وجيشها ونظامها الإداري ومواردها ... وفوق كل ذلك ... استقلاليتها ... إضافة إلى أن دولة الكنتباي كانت نواة لإتحاد يتكون من أكثر من 70 قبيلة ... فالسؤال ... هل ترى أن أحد الرجلين أراد أن يستفيد من مقدرات الآخر لتحقيق طموحه؟ أم أنه اتفاق بينهما ... بدوافع الوطنية والدين وبقية القيم؟ سؤال يحتاج للمزيد من التقصي
.
من كل ذلك ... لا بد من إعادة القراءة وفحص الوثائق المختلفة ... خاصة وثائق اسماء الأسرى وذلك للوقوف على حجم الدور الأساسي للحباب في المهدية ... لكن الأسباب .. فهذه تظل اجتهادات ... إذ من الصعب جدا ... معرفة نوايا الرجلين ... لهما الرحمة
.
وللمزيد من تعميق المعاني بعد هذا العرض العام للموضوع ... فلا بد من إعادة قراءة الأحداث بوجهة نظر أخرى ... وجهة نظر من وقعت عليه تلك الأحداث ... أي أثر الأحداث على إنسان الإقليم ... فإعادة القراءة قد تتخذ شكلا آخر من أشكال التعبير الكتابي ... أو ضربا من ضروب الفنون المختلفة
.
عبر مدة ال350 سنة ... كانت دولة الحباب تصارع من أجل البقاء ... واستطاعت الخروج متماسكة رغم كل الأزمات ... شاركت في صنع الأحداث وفي تشكيل الإقليم ككل ... حفظت لمواطنيها أرضهم وكينونتهم وهويتهم ... لم ينتابها الضعف ... لكنها ... في نهاية المطاف ... كانت عرضة لأجندة الاستعمار الأوربي ... شأنها شأن بقية الكيانات السياسية في إفريقيا ... وبقية العام ... اتفق الإنجليز والطليان على قوتها وتماسكها ... واتفقا أن تماسك هذه الدولة سيشكل حجر عثرة أمام الطموح الأوربي ... ولما لم تفلح كل محاولات الإضعاف ... جاء القرار بتقسيمها إلى نصفين ... إضعاف القوة بنسبة 50% مرة واحدة ... ومن ثم جاء تطبيق القرار على أرض الواقع ... بموجب الاتفاق الذي وقعته لجنة كتشنر/باراتيري في 25 يونيو 1895م ... ليكون هذا اليوم ... هو آخر يوم في دولة الحباب الموحدة
https://www.facebook.com/groups/136230939761515/permalink/962925097092091/