بناء على طلب عدد كبير من الأصدقاء والمعارف أعيد نشر هذا المقال (مقسما الى أربعة أجزاء) علما بأن المقال بالكامل قد سبق نشرة بتاريخ 10 سبتمبر 2006 في موقع سودانيز أون لاين.
http://www.sudaneseonline.com/ar/article_4540.shtml
++++++++++++++++
الجزء 3 :
الحباب في السودان قديما وحديثا:
إن القول بأن الناطقين بالتقري "مكانهم إرتريا" هو قول يمثل نصف الحقيقة فهم فعلا مكانهم أرتريا وهم ايضا مكانهم السودان . وهذا ينطبق تماما على الناطقين بالبداويت فهم موجودون في أرتريا ولهم قومية معترف بها تسمى الحدارب كما هم موجودون في السودان . وانا مع احترامي الشديد لك اتحدى ان تذكر لي قبيلة واحدة من البجة ليس لها امتداد في داخل ارتريا ـ قل أو كثر . فالهدندوا لهم وجود في ارتريا والأمارأر لهم وجود في ارتريا وكذلك وبالطبع الأشراف والارتيقا والحلنقا والبني عامر والحباب . حتى البشارييون الذين هم أبعد البجة جغرافيا بالنسبة لأرتريا يقول بوكهارت عندما زار المنطقة أنه وجد مضارب خيامهم حول مصوع . والحقيقة ليس البجة (بقسميهم) وحدهم اللذين لهم وجود في ارتريا بل توجد امتدادات في ارتريا لأهلنا اللحوين عند نهر سيتيت وأهلنا الشكرية (النوايمة) وقريتهم المعروفة الشكرة داخل ارتريا بل ونظارتم التى كانت تمتد الى هيكوتا في أيام ناظر الشكرية أحمد بك أبو سن . ليس هذا فحسب بل إن السادة المراغنة الذين يمثلون الزعامة الدينية للبجة ولكثير من السودانيين موجودون حتى يومنا هذا في كل المدن الأرترية وعلى أعلى مستوى وهم اصحاب أرض وأملاك ومن يعتقد أننى كاذب فليسألهم . وطبعا لا أنسى أهلنا الرشايدة وهم قومية معترف بها في ارتريا فماذا تقول يا أوهاج لهولاء دعك من الحباب والبني عامر . وعودا الى بدء نقول أن شعب البجة موجود في ارتريا والسودان واثيوبيا ومصر وهذا قدر شعب البجة (تماما كالأكراد) ما اختاروه بانفسهم ولكن شاء الله أن تقسم أوطانهم (قبل حوالى مائة عام فقط) بأيدي الاستعمار لا بأيديهم. واذا كان البعض يريد أن يغسل يديه من الوجود في ارتريا فنحن الحباب لا ننكر وجود جزء كبير ومقدر من أهلنا في ارتريا بل ونعض على هذا المكسب بالنواجز ولن نفرط فيه تماما كما نرعى أرضنا ووجودنا ومكاسبنا في السودان العظيم ونعض عليها بالنواجز وكأن الحبابي يقول:
من كان من "أوطانه" ينفض راحه * فأنا علـى "أوطانـي" أقبض راح
ولد "الإباء والفـداء مع الحبـاب" * وسيحـمـلون معا على ألـواح
ولعله من نافلة القول أن نذكر هنا أن البجة بصفة عامة والناطقين بالتقري بصفة خاصة دفعوا في سبيل دحر الاستعمار عن ارتريا الأموال والأنفس حتى تحررت ارتريا الغالية . والآن لولا السند الذي يجده أبناء البجة من ارتريا لما أعار أحد بالا لمطالبهم فقد ظلوا ينادون بذلك منذ اكتوبر عام 1958 . فلا تكونن أول جاحد لدور ارتريا ولم تنل بعد مطالبك، هذا اذا كنت حريصا على مطالب البجة . وأذكرك بما قلت أن الناطقين بالتقري "مكانهم إرتريا حتى عودة الإمبراطورية الإثيوبية" وأنا أحب أن اطئمنك يا أخي أوهاج أن الامبراطورية الاثيوبية لن تعود الى ارتريا أبدا لأنها خبرت صمود أهلها وتدرك الدور الريادي الذي لعبه إخوتهم في شرق السودان والذين هم أول من أشعل شرارة النضال ضد تلك الامبراطورية عام 1958 من قلب مدينة سودانية هي بورسودان وتم تكوين حركة تحرير ارتريا في بيت من بيوت الحباب . هذا فضلا عن الدور الكبير الذي قام به البنو عامر والسادة الأشراف في إقناع البطل حامد إدريس عواتي ليحمل السلاح (راجع كتاب سواكن أم الحواضر للأستاذ محمود أبو عشة) .
إذا الحقيقة الكاملة هي أن الناطقين بالتقري (الحباب والبني عامر) كانوا موجودين مع اخوتهم الناطقين بالبداويت في المنطقة الممتدة من سواكن (السودان) الى مصوع (ارتريا) ومن النيل الى البحر وذلك منذ انهيار سد مأرب على أقل تقدير . وبالنسبة للحباب وفيما يتعلق بوجودهم في الأراضي الوقعة حاليا في السودان فالثابت في كتب التاريخ أن بحيلياي (الأخ الأصغر لأسقدي مؤسس الحباب) قد حكم المنطقة الممتدة من جبال تقدرا المحازية لتوكر الي منطقة عدوبنا أو مقدام كما يحلو لأهلنا أن يسمونها وما زال شرم بحيلياي (بعضهم ينطقه بحيلاي) شاهدا حيا وموجودا حتى اليوم في عدوبنا . وذكرنا من قبل أن قبر أسقدي الجد السابع عشر للجيل الحالى من الحباب يوجد في قديفرا بدبر عنقا قبالة عقيق ويرمي عليه السكان المحليون حجرا كلما مروا به عملا بالعادة القديمة التى فرضها على السكان حاكم المنطقة وقتها بحيلياي حتى يكبر قبر أخيه أسقدي بمرور الوقت على شكل مخروطي يسمى عندهم "فرما" وينبغي أن تلاحظ التشابه في الشكل والمضمون بين "الفرمFARAM " عند الحباب و"الهرم" عند المصريين.
الحباب والثورة المهدية:
اخي أنت تقول أنك نشرت المقال لتبين للنخب السودانية ومتخذي القرار ليعرفوا من هم البنى عامر . وأنا أقول لك إن النخب السودانية وصناع القرار لا يعقل أن يعتمدوا على مقال نشرته أنت في الانترنت ليكون مصدرا للمعلومات خاصة وأنت تحمل كل هذا الحقد على الناطقين بالتقري . لكنني اقر بأن النخب السودانية وصناع القرار يجهلون تاريخ السودان على وجه العموم وتاريخ شرق السودان على وجه الخصوص ودور الحباب في المهدية جزء من هذا التاريخ المجهول ولكن نحمد الله سبحانه وتعالى أن قيد لهذه الأمة رجالا يقولون الحق ولو على أنفسهم ومن هولاء الانصاري القح والعالم الفذ اللواء أبو قرون عبد الله ابو قرون الذي ما زال متمسكا بانصاريته "يلبس الجبة وسكين الضراع" . إنني أقول للنخب السودانية وصناع القرار استفيدوا من هذا الرجل لمعرفة دور الحباب في الثورة المهدية لعل ناعقا آخر يأتيكم بنبأ تصدقونه ثم تكونوا على ما فعلتم نادمين . فالحباب هم من أوائل القبائل التى لبت نداء الجهاد تحت راية المهدية وهم آخر من بقي مواليا للمهدية في شرق السودان (راجع كتاب السير فرانسيس ونجيت (بالانجليزية): المهدية والسودان المصري). واليكم التفاصيل .
عندما ظهرت دعوة الامام محمد أحمد المهدي كانت المناطق الممتدة من كسلا الى سنحيت (كرن) ومن سواكن الى مصوع تعرف بشرق السودان وكانت مصوع وسواكن تخضعان للحكم المصري وذلك بالرغم من ان السيادة الاسمية عليهما كانت للدولة العثمانية لذلك فان الاراضي الواقعة بين المدينتين كانت تمثل اقليما واحدا وكانت قبائل المنطقة ذات الطبيعة البدوية تنتقل في هذا الاقليم بحرية جريا وراء الماء والكلأ وكانت الحباب واحدة من أهم قبائل هذا الاقليم.
ثم صدع الامام المهدي بدعوته وتم في عام 1883 تعيين المجاهد عثمان ابوبكر دقنة اميرا على شرق السودان. فبدأ في استقطاب القبائل للدعوة الوليدة. وكانت رئاسة الحباب في ذلك الوقت في يد كنتيباي حامد بك حسن الذي اتخذ من سواكن المقر الرئيسي للقبيلة ، وظل هو وقاضي الحباب المشهور في سواكن القاضي عبدالقادر ود حسين واخوه الشيخ محمد النور حسين خطيب الجامع الحنفي بسواكن والسيد إدريس بك محمد ، أمين جمرك سواكن (من بيت بحيلاي) ، ظل هولاء من أهم اعلام هذه المدينة لحين حصارها من قبل الأمير عثمان دقنة. وبما أن كنتيباي حامد كانت تربطه علاقة صداقة قوية بالأمير عثمان دقنة (قبل خروج الأخير منها) فانه شعر بالمضايقات من جهة وبالحرج من بقائه داخل سواكن التي أصبحت هدفا حربيا لعثمان دقنة فضلا على أنه خشي من معاقبة الإنجليز له بسسب ولائه لعثمان دقنة ولهذا قرر الخروج منها واتخذ مرسي رارات (حاليا مرسى تكلاي) مقرا عاما للقبيلة. وبذلك اصبح في وضع يمكنه علنا من مبايعة صديقه القديم الامير عثمان دقنة فجمع وفد المبايعه الذي تكون من عدد كبير من الفرسان الذين تم اختيارهم من كل قبيلة تابعة للحباب وارسلهم بقيادة اخوية همد ود حسن وهداد ود حسن والقاضي عبدالقادر حسين الى مقر الامير عثمان دقنة في تاماي وحضر الوفد الى الامير في عام 1885م ومعه مؤن وأقمشة لجيش الأنصار "تحملها قافلة مؤلفة من مائتي جمل" ، فبايعوا الامير على نصرة الدعوة المهدية وتم تقسيم الحاضرين الى رايتين إحداهما برئاسة الامير خضر بن على الحسنابي والثانية برئاسة قاضي الحباب السابق في سواكن الامير عبدالقادر حسين الذي عين أميرا على سواحل بلاد الحباب (راجع منشورات عثمان دقنة وكذلك محمد صالح ضرار : تاريخ شرق السودان ، ممالك البجة، القاهرة 1992 ، صفحة 355 وصفحة 440) . وفي ذلك العام حدث امر هام تمثل في احتلال الايطاليين لمصوع في 5 فبراير 1885م وكانت السلطة الفعلية في سواكن قد الت للانجليز (عقب معركة ترنكتات التي وقعت في 4 فبراير 1884) وبذلك اصبح الميناءان (سواكن ومصوع) في ايدي الاعداء واصبح كنتيباي حامد محاصرا من الجهات الاربع : الانجليز من الناحية الشمالية والايطاليين من الناحية الجنوبية والبحر من امامه والاحباش (الراس ألولا) من خلفه ولكن كل ذلك ما كان ليفت في عضد رجل مثل كنتيباي حامد. وبعد ستة شهور من البيعة الاولى (أي في اواخر عام 1885) طلب الامير عثمان دقنة من الحباب ومن بقية القبائل ارسال وفودها اليه للذهاب الى امدرمان ومبايعة الخليفة عبدالله التعايشي. فارسل كنتيباي حامد ابنه محمد الذي اختير مع الوفد الذي تقرر ان يسافر الى امدرمان لمبايعة الخليفة ولكن الاجل كان أسرع فقد انتشر الجدري بين الانصار وأصاب الكثيرين ومنهم محمد بن كنتيباي حامد الذي مات في تاماي (سلحات) الواقعة على بعد أميال قليلة جنوب غرب سواكن ودفن بالقرب من جدة الأعلى (أسقدي) المدفون في قديفرا (أسقدي فرا) في دبر عنقا وهكذا أراد الله ان يكون أول شهيد من الحباب في الثورة المهدية ليس من عامة الناس ولكن ابن زعيمهم المحبوب . وهنا أقول كما قال الفيتوري:
ها هنا واريت أجدادي هنا وهم اختاروا ثراها كفنا
وسأقضي أنا بعد أبي سيقضي ولدي من بعدنا
نحن أهرقنا عليها دمنا وزرعناها سيوفا وقنا
وركزنا فوقها أعلامنا وتحدينا عليها الزمنا
وسنهديها إلى أحفادنا سيحمون ثراها مثلنا
وبحلول عام 1885 تمايزت الصفوف في شرق السودان . فطبقا للتقرير رقم 63 الموجه بتاريخ 20 ابريل 1885 من مستر مايسا - نائب القنصل الايطالى في مصوع - الى وزير حارجية ايطاليا ، وقفت القبائل الواقعة بين كسلا وسنحيت (البنى عامر والحلنقا) ضد الثورة المهدية بينما وقفت القبائل الواقعة بين مصوع وسواكن (الحباب والكميلاب) مع الثورة المهدية ولهذا سيدفعون الثمن غاليا فيما بعد . وبعد ذلك بقليل (عام 1886) ارسل الخليفة عبدالله التعايشي الامير محمد عثمان ابو قرجة ليتولى امارة شرق السودان. وفعلا وصل ابوقرجة الى الشرق والتقى بكنتيباي حامد الذي اكرم وفادته ورحب به وجدد له البيعة واتفق معه على تمويل الانصار وذلك بتقاسم الضرائب التي فرضت على البضائع التي تاتي الى مرسي رارات (تكلاي) والذي ازدادت اهميته بعد حصار سواكن واحتلال مصوع حتى اصبح "ميناءا اسلاميا حرا فقصده تجار الرقيق وسائر البضائع" (ضرار مرجع سابق ص 49) . وهكذا ضمن الانصار الحصول على السلاح الذي كان ياتي عبر ميناء تكلاي كما ضمنوا الحصول على مصدر تمويل مستمر لدعم عملياتهم الحربية.
كل هذا ما كان ليرضى حكومات البغي التي كانت تمسك بزمام الامور في الحبشة ومصوع وسواكن. وقد أدرك كنتيباي حامد مبكرا ان الايطاليين والاحباش على وجه الخصوص لن يسكتوا على دعمه المفتوح للثورة المهدية، ولذلك بدأ يعد للامر عدته ويستعد للمواجهة المحتومة "فاستقل عن كل الحكومات وانشأ الجيوش والفيالق وأخذ أهبته للطواريء وجعل كل لواء من الرديف السوداني تحت أمرة ضباط ممن احيلوا لللاستيداع بأرض الحباب" ، (ضرار، مرجع سابق، ص 45) . ولما كان انتشار الثورة المهدية في شرق السودان يمثل شرأ مستطيرا بالنسبة للأحباش النصارى والإنجليز والطليان التوسعيين على السواء فقد التقت مصلحة كل تلك الدول على محاربة المهديين ومن شايعهم من قبائل المنطقة ولذلك اتفقوا على التنسيق فيما بينهم ولتحقيق هذا الاتفاق قام الكولونيل ساليتا قائد الجيش الايطالي ومعه كتيبة من الجنود المرتزقة المسلحين ببنادق رمنغتون في 9/5/1885 باحتلال منطقة أمبا لقطع الطريق على الامير عبدالقادر حسين الذي كان قد دخل في قتال مع جيش الرأس الولا في موقعة (طرح جعل) وانتصر عليهم وطاردهم حتى بلغوا منطقة قدقد (جِدْجِدْ) ثم تقدم بقوات الانصار حتى وصل منطقة شعب (ونادي بالجهاد المقدس في ليبكا ضد الكفار). (راجع ضرار، مرجع سابق ص 440) وكذلك راجع التقرير رقم 493 الموجه من نائب الحاكم العسكري لمصوع الى وزير الخارجية الايطالي بتاريخ 14/5/1885، كتاب وثائق الخارجية الايطالية حول احتلال اريتريا، دمشق ، 1978 ، ص 321) . وفي 12/5/1885 نزل الراس ألولا بقواته البالغة خمس ألف مقاتل في السهل الممتد ما بين أمبا وكنفر واشتبك مع قوات الانصار بقيادة الامير عبدالقادر حسين والذي كانت قواته لا تزيد على ألف مقاتل جلهم من الحباب . وبعد معركة ضارية وغير متكافئة تمكن الرأس ألولا من هزيمة الانصار. وبعد انتصار ألولا على طلائع الانصار في تلك المواقع المتقدمة رأت الادارة الانجليزية في سواكن ان تدعم الرأس ألولا وتشجعه على محاربة (الدراويش) كما كانوا يسمونهم. لذلك فان الكولونيل شرمسايد (الحاكم الانجليزي في سواكن) ارسل عن طريق ماركوبولي (نائب حاكم مصوع) في (5/8/1885 (هدية) الى الرأس ألولا مكونة من الف بندقية وخمسين ألف دولار (انظر فب.ر.ونجيت: المهدية والسودان المصرى (بالانجليزية). طبع في لندن عام 1891 ، ص 250).
وهكذا أصبح الرأس ألولا الاداة التي يحارب بها الايطاليون والانجليز الحباب وأميرهم عبدالقادر حسين في الشمال والامير مصطفى هدل ومجموعته في الغرب . وقد كتب الرأس ألولا الى الكولونيل شرمسايد رسالة بتاريخ 26/8/1885 يؤكد له فيها ان عملياته القادمة ضد الدراويش ستبدأ بعد عيد القديس يوحنا ، أي بعد 13/9/1885 (المرج السابق، ص 250).
وفي تلك الاثناء كانت هنالك جبهة أخرى ساخنة، فقد حضر الأمير عثمان دقنة والأمير مصطفى هدل بقوة كبيرة ألى حامية كوفيت (في أريتريا) الواقعة شرق كسلا واستولى عليها ولهذا صدرت الاوامر الى الراس ألولا ليترك الجبهة الشمالية لبعض الوقت ويتجه الى الجبهة الغربية لوقف زحف الانصار. وفعلاً تحرك الرأس ألولا بقواته قاصدا كوفيت وعمد الى تجميع المال والعتاد للمعركة الفاصلة. وقد استفاد الرأس الولا استفادة كبرى من مناصرة البنى عامر له ضد الانصار الذين كانوا يسمونهم "القوم". فقد انضم اليه ناظر البنى عامر دقلل موسى محمد الذي خلف دقلل على بكيت (توفى في ديسمبر 1884). وبانضمام البنى عامر (وليس الحباب يا أوهاج) أصبح جيش الرأس الولا مكونا من عشرة ألف مقاتل تقريباً. وقد كتب الامير هدل رسالة بتاريخ 29/8/1885، موجهة الى ملك الوثنيين وشيطانه الراس ألولا وموسى محمد ناظر البنى عامر .. الخ دعاهم فيها الى لقائه وهددهم بالدمار اذا لم يستجيبوا لدعوته. وفي عصر يوم 22/9/1885م وصل الراس الولا الى كوفيت فوجدها محتلة من قبل عثمان دقنة. وفي صباح 24/9/1885 وقعت المعركة الفاصلة التي اوقفت تقدم المهدية في أرض البنى عامر وقد قاتل الرأس ألولا قتال الابطال حتى قتل حصانه فترجل عنه وقاتل حتى انتصر. وقد لعب فرسان السبدرات وعلى رأسهم زعيمهم على نورين وفرسان ألقدين وباقي فرسان بني عامر دورا حاسما في هزيمة جيش الامير الذي قتل منه ما يزيد على ثلاثة الاف شهيد بينهم عدد كبير من امراء المهدية في شرف السودان. وفي ذلك انشد دقلل قصيدة (بالبداوييت) لا أود ذكرها لحساسية معانيها (موجودة عندنا بصوت جدنا إدريس همد نور فارس "وقر" ويمكنك أن تسأل عنه أهلنا الهدندوا في تلك المناطق) .
وبالرغم من ان الانجليز والطليان والاحباش قد اجتمعوا على محاربة المهديين الا ان التنافس بينهم على احتلال الاراضي وبسط النفوذ كان قويا. ولذا كان كل واحد منهم يتوجس من الاخر. وقد حاول كنتيابي حامد استغلال هذه التناقضات بذكاء (ضرار: مرجع سابق). فالتقى في البدء بالراس الولا فهادنه وأمن شره لبعض الوقت (وهذا ما غاب عنك يا أوهاج عندما ظننت أنه تعاون مع ألولا وحاكم مصوع عندما كتبت "غادر كنتيباى حامد إلى مصوع لمقابلة قائد الجيش الإيطالى للإتفاق معه علي شروط أفضل من تلك التى منحها إياه ألأمير دقنه فأكرمه القائد الإيطالى ومنحه راتبًا شهريًا يصرف من خزينة مصوع ." وجب أن تعلم أنه كان يخطط كما يخطط أعداؤه ولهذا في الوقت الذي هادن فيه الراس الولا أراد أن يستفيد من العداء الذي كان بين الأحباش والايطاليين في ذلك الوقت ولهذا طلب كنتيباي حامد بك من قائد الجيش الايطالي تزويده بالسلاح لمحاربة الرأس الولا الذي كانت بلاده (الحبشة) تعترض على احتلل ايطاليا لمصوع وغيرها من الاراضي. ورغم استحسان الفكرة من قبل الايطاليين الا ان شكوكهم في ولاء الحباب للمهدية لم تنقطع ولذلك اصبحوا يماطلون في تلبية طلب كنتيباي حامد. وكان نائب محافظ مصوع في ذلك الوقت شخصا من قبيلة البلو يدعى محمد نور وكان على خلاف شديد مع كنتيباي حامد بك فتدخل حكمدار شرق السودان آنذك السيد مسنجر (مزنجر) وانصف كنتيباي حامد ولهذا ألف كنتيباي حامد قصيدة جميلة يسخر فيها من أهل مصوع:
حنا بأسنا بحطين وباضـع إبا وراقــه
حنا لقارنا فقرنهو بربي وإبلا خواجــه
من روشانو كرينهو حسن باطعاي منباكه
عد درقي وعد معلم أي قيست لا الفاتحه
لقيمقيـلا افجتـه ونـواناى أســقاده
ولما سمع الراس ألولا بهذه التحركات طلب من حاكم مصوع (الايطالي) تسليم كنتيباي حامد له غير ان الخلاف بين أصحاب القرار حال دون ذلك . وفي تلك الفترة حدثت مشادة كلامية بين كنتيباي حامد ونائب محافظ مصوع (الذي كانت تجمعه صداقة قوية بالراس الولا) اخرجت كنتيباي حامد من دبلوماسيته فجاهر بعدائه لايطاليا وهدد بشن الحرب على سلطة مصوع. واستغل خصومه هذه الحادثة فدبروا له مكيدة اشترك فيها شخص حبشي بالتنسيق مع ادم بك محمد (من بلويب مصوع) واثنين من الايطاليين يدعى احدهما كولونيال والثاني روقادي والقى القبض على كنتيباي حامد بك وارسل اسيرا الى روما ثم الى السجن في عصب. وهكذا اجهضت محاولات هذا الزعيم الفذ الذي أهمل التاريخ بطولاته. وبأسر حامد بك فقد عثمان دقنة واحدا من أشد مناصريه وحزن الأنصار لاسره ولكن حزن الامير محمد عثمان ابوقرجة كان أكبر بسبب المواقف القوية لكنتيباي الحباب والعلاقة الطيبة التي كانت تجمعه بقواد المهدية في شرق السودان . وقد أحب الامير أبوقرجة ان يخلد ذكرى كنتيباي حامد فاطلق على ابنه الذي ولد في تلك الفترة اسم "كنتيباي" وفاء لذكرى صديقه وتيمنا به. وقد نشأت بين كنتيباي الشرق وكنتيباي أبوقرجة علاقة أسرية امتدت عبر الاجيال وكان ناظر الحباب كنتيباي حسين (حفيد كنتيباي حامد) عندما يزور الخرطوم ينزل لدى أسرة كنتيباي أبوقرجة دون أهله الأقربين وفاء للعلاقة التي جمعت بين الأجداد. ولاتزال أسرة كنتيباي أبوقرجة حتى الان موجودة في امدرمان وغيرها من المدن .
وبعد القاء القبض على حامد بك تولى النظارة اخوه هداد بن حسن الذي اجتمع في توكر بالامير أوهاج بن حسن الكميلابي وجدد البيعة التي سبق ان أداها للامير عثمان دقنة في تأماي كما ذكرنا سابقا. وقد ظل الحباب موالين للمهدية حتى آخر لحظة، ولعله من نافلة القول ان نشير الى ان آخر دعم من المال والرجال تلقاه الامير عثمان دقنة قبيل سقوط طوكر ورحيله الى ادارمه في نهر عطبرة كان قد جمع من أرض الحباب (انظر ونجيت – مرجع سابق، ص 493). ليس هذا فحسب بل ويكفي الحباب فخرا واعتزازا أنه وبعد هزيمة الانصار في أم دبيكرات واستشاد عبد الله التعايشي درات آخر معركة على الاطلاق بين من تبقي من جيوش المهدية والمحتل الانجليزي في خور أم سنط قوامها مائة وسبعون انصاريا كان من بينهم سبعين من الحباب وهكذا رفعت الاقلام وجفت الصحف وهي تحكي للأبد مجاهدات الحباب وصدقهم عند اللقاء . هذا وقد تمكنت دعوة المهدية من نفوس الناس حتى بعد إفول نجمها ومن ذلك ما يروى عن عمدة عد تكليس (إحدى قبائل الحباب) الشيخ نصر الدين ود درار الملقب بـ (ايتشلك ومعناها الذي لا يضفر شعره المتدلى على الاكتاف) والذي كان عندما يغضب يقول (أنا ود مهدي) أي أنا الانصارى الذي تعرفونه جيدا عند الغضب. وشهد عهده رخاءا وسعة في الرزق ولذلك فان حرائر القبيلة لقبنه (ود مهدي ود حالاب أرَدّيِ) أي الانصاري الذي في عهده درت صغار الغنم باللبن.
+++++++++ نواصل في الجزء الرابع إن شاء الله ++++++++++++++