خالد على ودالعمدة Admin
عدد المساهمات : 853 نقاط : 2246 السٌّمعَة : 1 تاريخ التسجيل : 20/06/2010 العمر : 56 الموقع : خارج ارض الوطن
| موضوع: قراءة في دفتر الحباب السبت سبتمبر 21, 2013 11:40 am | |
|
قراءة في دفتر الحباب للدكتور هاشم الخليفة
الحباب ومشروع كمرون
بعد إجلاء الأمير عثمان دقنة عن طوكر 1891م وانتقال مركز قيادته إلى أدرأمة بدأ الإنجليز في تقليب الدفاتر القديمة عسى أن يجدوا فيها ما يعينهم على إعادة تشكيل السودان الشرقي وبما يكفل لهم تحقيق أطماعهم الاستعمارية المتنوعة. ومما في تلك الدفاتر هو مشروع المستر كمرون الخاص بإضافة كل أرض الحباب للسيادة المصرية في سواكن.
فإعادة هذا المشروع ثانية إلى طاولة النقاش الإنجليزية هو ما اقتضته ضرورة المرحلة الجديدة ... الإنجليز يسيطرون على طوكر الآن والأمير دقنة يبتعد إلى منطقة قوز رجب ولكن تبقى قوة الحباب هي ما يمكن أن تشكل مهددا أمنيا في المستقبل إن لم يتم تدارك ذلك الآن. والإنجليز هم من يدرك ذلك أكثر من الطليان ... يدركون أنهم الأكثر ضررا حالة حدوث أي تنسيق مستقبلي بين الحباب وعثمان دقنة ...
وقوة الحباب هي الأكثر تماسكا الآن .... فإتفاقية الطليان والحباب 1887م شكلت حماية للحباب من الغارات المتكررة لقائد الحماسين - الرأس الولا - وهو من توصف غاراته بأنها الأكثر استنزافاً للموارد البشرية والإقتصادية وللحباب في ذلك تجارب متنوعة ... كما جاءت هذه الإتفاقية بمثابة الغصة في حلق الملك الأثيوبي – يوهانس الرابع - الذي كان يطمع في كشف ظهر الحباب والاستفادة من امكانياتهم المختلفة في درء الخطر الإيطالي الذي يلوح في أفق أثيوبيا وقتئذٍ... بل الإتفاقية أيضا كانت بمثابة حائط الصد لأي هجوم إنجليزي متوقع على أرض الحباب طالما جيوشهم ترابط في سواكن الآن.
فالضرر الذي حاق بالحباب وحلفائهم وجيرانهم من إتفاقية هيويت Hewitt التي ابرمت بين مصر الإنجليزية والحبشة في 3 يونيو 1884م هو ما أوغر في نفوس تلك المجموعات الحنق وجلعهم أقرب للثأر ... دعك من الصداقة ... تلاشت ثقة الحباب في المصريين بعد اتفاقية هيويت ... فالذي أمام القائد حامد الآن هو اغتنام أي من الفرص لاستثمارها لصالح الحباب وأخيرا وجد ضالته في الطليان.
فحتى عام 1883م كان الحباب يتبعون إلى السيادة المصرية في سواكن وبعد قيام الثورة المهدية وانفراط نظام الحكم في شرق السودان استقل الحباب بكامل قرارهم السياسي وانحازوا للمهدية شأنهم شأن الكثير من مكونات الشرق ... هذه من أصعب الفترات على جميع الكيانات في شرق السودان ... ازداد الأمر سوءا في العام 1884م عندما تم ابرام إتفاقية هيويت Hewitt بين مصر الإنجليزية والحبشة في 3 يونيو 1884م.
طرفا هذه الإتفاقية هما: الأدميرال سيروليام هيويت نيابة عن مصر ويمثل الطرف الآخر: ملك الحبشة – يوهانس الرابع ومعاونه الرأس الولا – قائد التقراي .... والغرض الأساسي من هذه الإتفاقية هو إنقاذ الحاميات المصرية التي كانت تحاصرها جيوش المهدية في كسلا وأمديب وسنهيت وكرن ... والمادة الثالثة تلزم ملك الحبشة – يوهانس الرابع – بتأمين انسحاب هذه الحاميات إلى ميناء مصوع ومقابل ذلك تنازلت له مصر عن أرض البلين ووفرت له ترسانة من الأسلحة لتأمين انسحاب حامياتها ...
هذا الإجراء خلق فوضى عارمة في المنطقة الشرقية ... الحكومة المصرية أعلنت تغييب نفسها عن الساحة ... يوهانس الرابع ومعاونه الرأس الولا هما من يتحكم في مجريات الأمور ... وانتقل استخدام السلاح من حراسة الجنود المصرية إلى قتل الأنفس وترويع الأهالي ونهب ممتلكاتهم ... وكان المنسع وعد تماريام وعد طورا هم الأكثر تضررا جراء ذلك الانفلات الأمني ... ساهم ذلك أيضا في المزيد من تكتل الكيانات مع بعضها لحماية نفسها ... وفي تحد ظاهر للعيان آوى كنتباي حامد كل المناوئين لسلطتي يوهانس الرابع ومعاونه الرأس الولا ... يأتي على قائمة أؤلئك المعارضين كل من البهاتا هكوس (قائد الحماسين) ودباب (شقيق الرأس الولا ومن معارضيه) وكفلي إياسو (زعيم الثوار الأثوبيين) ... ذلك يشير إلى جاهزية الكنتباي في خوض الحرب مهما كانت التكاليف وإلا لما آوى تلك المعارضة ... من ناحية أخرى لم تستجب السلطة المصرية في سواكن إلى المطالب المتكررة من الأهالى لإيقاف كل مظاهر العنف والهمجية التي تسبب فيها وضع أسلحتهم في يدي يوهانس الرابع ومعاونه الرأس الولا.
كل ذلك بات غير مشجع لكنتباي حامد أن يقترب من الإدارة المصرية مرة أخرى وفي ذات الإطار لابد من الاستفادة القصوى من إمكانيات الطليان لصالح الحباب.
إذن: فكنتباي حامد حسن كان مدركاً للواقع الأمني في المنطقة وما يمكن أن يتعرض له الحباب ... فكل السودان الشرقي أضحى ميداناً للحرب ومسرحاً للجيوش المختلفة ... فأين يكون موقع الحباب وسط هذه الأطماع المحمية بقوة السلاح؟ ... لأجل ذلك بادر كنتباي حامد بمطالبة إبرام الإتفاقية مع الطليان وفي ذات الإطار رفض كل محاولات الإنجليز في أن يقبل مشروع محافظ سواكن الإنجليزي - مستر كمرون – رفض ذلك بالرغم من وساطة محمد عثمان تاج السر الميرغني وبالرغم من عدم رضا هيربرت كتشنر – محافظ سواكن الجديد – الذي كان يكره الطليان ويبادلونه نفس الشعور... ومن ثم لا يشحع أي تقارب للحباب معهم.
ومما لاشك فيه أن ذلك الرفض البائن يؤكد وضع الحباب في القائمة السوداء للإنجليز في سواكن ... قلت (يؤكد) لأن سواكن الأنجلومصرية تحتفظ بكل ملفات الحباب في دعم المهدية ... ألم تكن هذه هي السانحة المناسبة لكنتباي حامد أن يكسب ود الإنجليز الأقوياء ويصل معهم إلى تسوية تحفظ للحباب حقوقهم وتحميهم من الأخطار؟ ألم تكن هذه هي الفرصة المناسبة خاصة أن كتشنر وعد بالعفو عن الحباب وغض الطرف عن ملفاتهم السابقة ثم تكريم الكنتباي ومساعديه؟ ألم يدرك الكنتباي بأن بريطانيا هي من أتى بإيطاليا إلى مصوع درءا للوجود الفرنسي في المنطقة؟ فإذا ما هي أتت بإيطاليا فماذا تعني قوة الحباب للإنجليز؟ ألم يعني ذلك وضع الحباب في مواجهة جديدة؟
كنتباي حامد يدرك ذلك كل الحباب تدرك ذلك شركاء الحباب يدركون ذلك فالعقل الجمعي إذن : يدرك ويتابع ويؤيد الكنتباي في الرفض
وأنت ... أيها القارئ الكريم ... قد أدركت شيئاً من ذلك الآن ... إلا أنه إدراك بإعمال العقل ... يختلف عن إدراك الكنتباي ورجاله ... إنهم يعايشون الأمر بحالتي العقل والشعور ... المناخ السائد ساعتئذ هو ... انعدام حالة الأمن في نفوس الرجال والنساء والأطفال ... الخوف من الحاضر الماثل وليست من المستقبل المجهول ... الحاضر ينذر بشرر كالقصر ...ليست التفكير الآن في مستقبل الأطفال بقدرما هو حمايتهم من هول الأسلحة وقسوة حامليها ... وليست التفكير في رغد العيش بقدرما هو التفكير في لم الشمل ومنع التشتت والمحافظة على الأرض والعرض والمتربص دائماً على بعد خطوات ... ليست التفكير في من هو السيد ومن هو المسود ... رصاص العدو لا يفرق بين حاملي الألقاب من البشر ... المصير المشترك هو من قد يفدي فيه السيد رعيته بدلا عن أن تفديه الرعية .... وكل هذا جزء يسير من معاني الحالة التي كان يدركها رجال الكنتباي ... يدركون ذلك ويعايشونه ... ويرفضون التجاوب مع إدارة سواكن في قبول مشروع كمرون.
قلت: إن كنتباي حامد هو من بادر بمطالبة إبرام الإتفاقية مع الطليان ... انظر خطابه إلى حاكم مصوع الإيطالي – جنرال سالتا :
( 13 شعبان 1304ه الموافق 3 مايو 1887م .... في هذا اليوم علمت بمقدم سعادتكم الذي تشرفت به مصوع ... والحمد لله على سلامة وصولكم .... أؤكد لك أنا وعربي لنا عظيم الشرف برؤيتكم وتقبيل يديك ... ونسأل الله أن ينصرك على أعدائك ... أنا في انتظار أوامر سعادتكم للسماح لي كيما أتشرف بلقائك )
ويؤكد خطاب الجنرال سالتا ما ذهبتُ إليه أعلاه من أن الكنتباي هو صاحب المبادرة ... انظر خطاب سالتا المكتوب للجنرال بيرتولي فيالى وزير الحربية في إيطاليا:
(استلمت خطاباً من (أحمد) كنتباي زعيم الحباب وفيه يطلب إذناً للحضور لمصوع بغية مقابلتي للتحية ... ولما كنت مدركاً لنوايا حكومتنا وما لها من خلفية تاريخية خصوص هذه المسألة إلا أنه من المهم الموافقة على هذه الزيارة والتي تهيئ لنا تأطير أعمالنا التجارية بما يهئ لنا مقابلة حالة الحرب المتوقعة مع الحبشة) ... تتابعت المكاتبات فيما بعد ...
كل هذه الترتيبات التي قام بها كنتباي حامد حفظت للحباب كيانهم القوي ... والآن بعد سقوط طوكر في يد الإنجليز وابتعاد عثمان دقنة ... بقي أمام الإنجليز قوة الحباب ... فما هي تدابير الإنجليز للسيطرة على الوضع الحبابي ؟ ... ومن الواضح أن الإنجليز يرون ضعف إيطاليا الماثل أمامهم ... إيطاليا فشلت في ترويض الحباب بالرغم من سجن وإعدام رؤسائهم واحداً تلو الآخر ... من ثم لجأ الإنجليز إلى إحياء ذكرى مشروع كمرون الخاص بالحباب وأعادوه ثانية إلى طاولة النقاش ... فما هي فحوى ذلك المشروع الذي أعده القنصل الإنجليزي في سواكن ثم لم يتجاوب معه كنتباي حامد حسن؟
يتلخص المشروع في: ( ضم كل أراضي الحباب للإدارة الحكم الإنجليزي المصري في سواكن) وتم تدعيم ذلك باكثير من الحجج والأسانيد ... ومن المعلوم أن سواكن كانت تحت السيادة المصرية ولكن الإدارة الفعلية في أيدي الإنجليز ...
قلت: إن محمد عثمان تاج السر (الميرغني) كان من المرغبين للحباب في قبول هذا المشروع ... انظر رسالة الميرغني لكنتباي حامد بتاريخ 22 نوفنبر 1886م :
( لقد إلتزمت بكملة شرف لسعادة الكولونيل كتشنر وهو موافقتكم على قبول الخضوع لحكومة سواكن وإني لموقن في قرارة نفسي بأن هذه هي الحقيقة التي يجب أن تتبع . كما اذكر أن سعادته طمأنني بالعفو عن كل من يعلن خضوعة التام وينفذ ما يطلب منه وأكد بأن العفو عن ما سبق يشمل كل الشيوخ والأعراب وبما فيهم سعادة حامد بيه كنتباي والذي سيكون له اعتباره الخاص لدى سعادة الكولونيل وحكومته , كما أنني ضمنت لسعادة الكولونيل استجابتكم لهذا الطلب)
تتواصل رسالة الميرغني ويختمها بما يشبه التهديد :
(الذي أطلبه منكم وبأسرع ما يمكن هو الرد على رسالتي مؤكدين فيه بقلب رجل واحد ولائكم الخالص وخضوعكم التام لحكومة سواكن كما كنتم تحت إدارتها من قبل .. من المهم وصول ردكم في أقرب وقت .. دون تأخير ودون إهمال ... وإلا هنا لكم تحياتي)
من الواضح أن هناك مساحة لتحليل وتفسير رسالة الميرغني ودوافع كتشنر وربطهما بواقع تلك الفترة وهذا ما لا أود الخوض فيه الآن ... ولكن ما يمكن قوله: إن هذه الرسالة لم تحرك ساكناً في نفس كنتباي حامد حسن ... الرسالة لم تشتمل على إجابات الأسئلة في ذهن الكنتباي ... ومن ذلك كيف يمكن أن تكون المحافظة على الكيان الحبابي في ظل الجيوش المتمردة والتي سبقت الإشارة إليها؟... كنتباي حامد كان يرى أن في امكانيته تطويع القدرات الإيطالية لمصلحة الحباب وذلك واضح من ثنايا خطابه للجنرال سالتا ثم ما تم لاحقا في الاتفاقية كما هو معلوم ...
إيطاليا كانت راصدة لما قام به الميرغني ... ورسالته هي جزء أصيل من الوثائق الإيطالية عن تلك الفترة ... فمن سرب تلك الرسالة للطليان؟ ... وكانت غاية سعادة كنتباي حامد أن يدرك الطليان رغبة إدارة سواكن في خضوع الحباب لها ... وكل ذلك كيما يتعجل الطليان في إبرام الإتفاقية ... إيطاليا كانت بطيئة الاستجابة ولعل السبب هو انتظار عودة الردود على خطاباتهم من روما كما لاحظنا في إحالة خطاب الكنتباي إلى وزارة الحربية الإيطالية ...
وحفاظا على علاقته الظاهرية بالميرغني , كل ما قام به كنتباي حامد هو إرسال وفد حبابي بقيادة ابنه محمود إلى كتشنر في سواكن ... وما حقيقة ذلك إلا إرسال رسالة للطليان بأن هناك حليف آخر في المنطقة إن هم أصروا على التسويف ... ولأجل ذلك بادر الجنرال سالتا في قبول الجلوس مع الحباب وإبرام إتفاقية 1887م.
من ذلك نرى استقلالية كنتباي حامد في اتخاذ قراراته السيادية ومن ثم يعتبر من صناع اللعبة السياسية في المنطقة وليست من الخاضعين لأهواء الغير ... سجنه وإعدامه يدلل على ذلك ... إذن تم غض الطرف عن مشروع كمرون من جانب الحباب ولكن الأمر يختلف عند الإنجليز.
كتشنر : لم يكن لديه الوقت الكافي لينتظر مناورات كنتباي حامد حسن بل إنه كان مدركا لدور الحباب مع عثمان دقنة وواعيا بمقاصد كنتباي حامد السياسية ... لذلك أرسل تقريراً بذلك إلى اللورد كرومر – المندوب السامي لبريطانيا في مصر – أحاطه بالمعوقات التي تعترض تنفيذ مشروع كمرون على أرض الواقع ... ومن ثم جاءت أوامر كرومر القاضية بإعادة فتح ميناء تكلاي وإنشاء نقاط جمركية وأخرى للمراقبة على السواحل ... كرومر يرمي إلى فرض السيادة الأنجلومصرية على أرض الحباب واتباعها لإدارة سواكن وذلك لضمان السيطرة البريطانية على البحر الأحمر وكثير من الأهداف الإستعمارية الأخرى.
مشروع كمرون الأن يتقل لمرحلة جديدة ... حيث احتدم فيه النقاش على أعلى المستويات السياسية في كل من مصر وبريطانيا وإيطاليا ... انظر الرسالة العاجلة لقنصل إيطاليا في مصر – الكولونيل دي مارتينو- إلى أغوستينو دبريتيس– رئيس الوزراء ووزير الخارجية بدولة إيطاليا:
( في مقابلتي مع لورد كرومر أوضح لي أنه لا يمانع من أن تكون منطقة رأس كسار هي الحد الفاصل بين نفوذ الدولتين (يقصد إيطاليا وبريطانيا) ... إلا أن المهم عند كرومر هو أن تكون لنا فقط حرية مراقبة البحر حتى تلك النقطة ولكن دون أن يكون لنا وجود أو حقوق على الأرض !!! كما أنه أشار للسلطات المصرية في سواكن بإعادة فتح ميناء تكلاي وإنشاء نقاط جمركية وأخرى للمراقبة على السواحل ...إنها السيادة المصرية على المنطقة ولكني غير متأكد من مدى تقبل كنتباي حامد للأمر )
إنها رسالة مزعجة للغاية أحست فيها إيطاليا بالخطر ومن ثم أوعزت لسفيرها في لندن مقابلة اللورد ساليسبيري رئيس وزراء بريطانيا ورئيس حزب المحافظين.... وعقب انتهاء اللقاء أرسل السفير الإيطالي رسالة موجزة إلى حكومتة في روما في 19 مايو 1887م وهذا نصها :
( بكل الود طلبت منه أن لا يستمع كثيراً إلى ما يقوله السير هيربرت كتشنر ذلك لأن شعوره العدائي لإيطاليا أمر معلوم لدينا ولعل ذلك يؤدي إلى إضعاف العلائق بين حكومتينا ... إن الصعوبات التي تواجهنا في مصوع الآن تقتضي منا بناء صداقة مع قبيلة الحباب)
والسفير الإيطالي تمكن من انتزاع وعد من رئيس وزراء بريطانيا بمعالجة الأمر بعد أن يتصل بكل من لورد كرومر وهيربرت كتشنر.
هدأت الأحوال بين الدولتين جراء ذلك اللقاء وازدادت هدوءا بعدما تبين للبريطانيين إصرار كنتباي حامد إبرام الإتفاقية مع الطليان ... وفي 5 يونيو 1887م وقع خمسون شيخا من شيوخ الحباب على ديباجة الاتفاقية وكانت فاتحتها :
( أنا الموقع أدناه : كنتباي حامد ابن كنتباي حسن ... زعيم الحباب ... أؤيد ما جاء في إتفاقية الصداقه هذه بين الحباب والسلطة الإيطالية في مصوع ... ونيابة عن نفسي وكل الحباب أعلن عن رضائنا التام بأن نكون تحت الحماية الإيطالية ومن ثم اتعهد بإنفاذ البنود التي اتفقنا عليها )
معلوم أن كنتباي حامد سلّم ابنه محمود للطليان كرهينة ضمان لتنفيذ الإتفاقية وهذه ظاهرة متفردة وجديرة بالوقوف عندها ...
إذن : الإتفاقية أرجأت تنفيذ مشروع كمرون لوقت آخر.
لكن : مياه جديدة تدخل تحت الجسر ... كنتباي حامد حسن ينقض الإتفاقية لجملة مبررات ( ليس هذا مكانها ) ... يتهم بالانقضاض على الطليان في مصوع بموجب اتفاق تم مع الأمير أبو قرجة .... والجاسوس سالم عبد الله لم يترك شاردة ولا واردة إلا قالها في حق الكنتباي ... يتم إلقاء القبض عليه ... يسجن في نكورا ... وتخرج الإشاعات بسفره إلى روما حتى لا ينشغل بأمره الحباب ويظلوا في انتظار عودته ريثما يتم ترتيب الأمور حسبما يراه الطليان ... ثم يتم إعدامه ...
وخليفته من بعده ... شقيقه كنتباي هداد حسن ... يسير على نهج سلفه ... فالتغيير ماكان تغييرا للسياسات بقدر ما هو تغييرا للأوجه ... كنتباي هداد كان الأكثر خطورة على الطليان لأنه يجيد التعامل مع المهدية التي كان هو مسؤول كل ملفاتها في عهد كنتباي حامد ... إيطاليا لم تكن على دراية بذلك في بادئ الأمر ولكن سرعان ما تبينت لها خطورة الرجل بل وخطورة أساليبه في المواصلة في تفعيل دور الحباب مع الدراويش .... كل مناسبات الحباب في الأفراح والأتراح في عهد كنبتاي هداد ماهي إلا اجتماعات تناقش على هامشها الكثير من الأجندة المهمة ... ولأجل ذلك كانت مناسبات الحباب ترصد بدقة متناهية من جانب الطليان ... في زواج: ( عثمان ود أكد على كريمة فايد ود نور الدين ... من عد تكليس بمنطقة عنسبة) .. رصدت المخابرات الإيطالية اجتماعا بين رجال كنتباي هداد ورجال عثمان دقنة الذين قدموا للمناسبة من طوكر ... انفض ذلك الاجتماع على أمل مواصلة المفاوضات في وقت لاحق .... هنا ... استقر رأي الطليان على التخلص من كنتباي هداد .... فهم يرونه الأكثر عنادا من سلفه حامد ... وبيرسيكو حاكم النقفة الإيطالي يكتب تقريرا مطولاً عن كنتباي هداد ولم يخف في ذلك التقرير أنه خدع عند تأييده تعيين هداد في الوظيفة التي اخلاها حامد ... اتسم تقرير بيرسكو بالحزن والحسرة والندم ... جزء منه يقول:
( هداد ... كالمعتاد ... أعطى ألف وعدا ولم ينجز ... لا يتقبل النصائح من أي شخص ... يستمع جيدا لما أقول ولكنه يسير في الخط الذي رسمه لنفسه ...)
وترسم الخطط للتخلص من هداد ... بيرسكو يتفق في ذلك مع قندولفي حاكم مصوع ... وتتم دعوة كنتباي هداد لحضور الاحتفال المقام على شرف ذكري ميلاد الملك الإيطالي ... والباخرة تحضر من ميناء عصب وبداخلها محمود حامد حسن ... محمود يغادر الباخرة وعمه كنتباي هداد يأخذ مكانه في ذات الباخرة ... يسجن في عصب ... ونكورا ... ويتم التخلص منه إعداماً ...
إنها من جرائم الإستعمار البشعة ... ولكنها تهون أمام الصامدين من الرجال والماسكين على جمر القضية ... وإلا كان أمام الرجلين ما يكفل لهما حياة الدعة والتنعم إن كان في ذهنيهما التمسح بعباءات السلاطين ...
ومحمود ابن كنتباي حامد حسن ... يستلم خطاب تعينه ( كنتباي للحباب ) من القمندان انطوني قندولفي – الحاكم العسكري في مصوع وذلك في 21 مارس 1891م ... انظر أهم المقتطفات من خطاب تعيين كنتباي محمود في نسخته العربية ركيكة الترجمة : ننقلها كما هي:
( هو يحلف اليمنى بالطاعة الكاملة أمام حكومة إيطاليا وأمام وكلاها ............ كما وأنه في أي وقت حالة حرب يكون تحت الحكومة كافة رجاله .................... حينما تامر الحكومة أو وكلاها بيكون مستعد لتقديم جمال أو أبقار أو أغنام أو ماعز على حسبما يلزمها لأجل التقديم للعساكر بموجب سعر مناسب ......... يجعل كل طيب فيما بين العساكر الايطاليين الموجودين في بلاد الحباب ............. هو يشهد من الآن انه مستعد أن يلم من جماعته ويدفع الى المرتبة تلك الطلبات .....ألخ)
إيطاليا الآن تضع كل أملها في كنتباي محمود لينتهج منهجا جديدا بالأخص ابتعاده عن الدراويش وهي لم تكن على دراية بعلاقة كنتباي محمود بقادة المهدية ... جزء من خطابه لأبي قرجة يقول:
( بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله الوالي الكريم والصلوات على سيدنا محمد مع التسليم ... فمن عبد ربه الغفور محمود بن كنتباي حامد إلى حبيبه في الله تعالى حضرة عامل المهدية الحاج محمد عثمان أبي قرجة تولاه الله ... آمين ... بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ........................... وحيث يا سيدي الحبيب إني محب للمهدية ومؤمن بها والآن متمكن من عموم أهالي الحباب فأقدم لكم الطاعة وقابلا البيعة وأني معكم على عهد الله ورسوله والمهدية فأمروني بما شئتم فإني مجيب لأوامركم ومنشوراتكم العلية وها أنا قي انتظارها والسلام )
فالذي أمام كنتباي محمود هو الاختيار ما بين الانصياع التام للطليان وما بين حرية اتخاذ القرار ... وهويدرك أن حرية اتخاذ القرار هي حرية ذات قيمة عالية ... لكن الأحداث تمر بسرعة لا تمكن حتى من التريث في التفكير ...
وبعد مرور أربع سنوات يظهر مشروع كمرون إلى حيز الوجود من جديد ... كنتباي محمود تم تعينه في مارس 1891م وفي إبريل من نفس العام احتدم النقاش بين بريطانيا وايطاليا مرة أخرى حول مشروع كمرون.
لورد كرومر أعلن عن عدم إعترافه بالفقرة الثامنة في اتفاقية الحباب – ايطاليا ... انظر الجزء المعني في الفقرة الثامنة:
II lugo di percezione del pedaggio dovra essere possibilmente uno, da determarsi in Taklai second ogni maggiore probabilita ………..
الفقرة تقول : إن يتم جمع الرسوم في مكان من المحتمل أن يكون ميناء تكلاي ويمكن أن يكون هناك مركز آخر ...
ولأهمية هذه الكلمة : (probabilita) لم أورد النص باللغة العربية ... ومعناها (يحتمل) ومن ثم لا يعتد بها في الاتفاقيات أصلاً ... ولما كان ذلك معلوما فمن الواضح أن الطليان يريدون الالتفاف حول شئ ما وذلك ما لفت انتباه كرومر ...
لورد كرومر يرى أن هذه الفقرة من الإتفاقية تعارض المادة 34 من مؤتمر برلين 84/1885م ... يجدر أن هذا المؤتمر كان بخصوص تقسيم إفريقيا بين الدول الأوربية ... فالمادة 34 تنص الآتي:
( أي من الأمم الأوربية تحتل مكانا على السواحل الإفريقية أو تستولى عليه بغرض الحماية عليها إبلاغ الدول الموقعة على هذا القانون)
هذا الإجراء أحدث ضجة سياسية كبرى في أوربا وتناولته أكبر الصحف البريطانية مما جعل البرلمان الإيطالي ينعقد بسرعة تداركا للإمر حتى لا توصف إيطاليا بالمنتهك للقانون المتفق عليه ... وفي خطابه الذي ألقاه أمام البرلمان , تنصل رئيس الوزراء الإيطالي – ماركيز دي روديني – من كل الإتهامات الموجهة من لورد كرومر ... جزء من خطابه يقول:
( إن حماية إيطاليا للحباب تمتد على أرض بعيدة عن الساحل ولا تقع تحت طائلة المادة 34 من مؤتمر برلين 84/1885م وعليه لسنا بحاجة لإخطار الدول الأوربية المعنية بالأمر ... وأن هذه الإتفاقية تجارية وليست إتفاقية حماية .... كما أن الإتفاق حول ميناء تكلاي لا يخص الصادر والوارد بل يخص تحصيل الضريبة على الايصالات التي يتحصلها كنتباي حامد ... وأن وجود كلمة (probabilita) تؤكد بأننا لا نشمل المناطق الساحلية بالحماية )
بهذا التراجع المعلن على الملأ نشط كرومر في القاهرة ومحافظ سواكن ومحمد عثمان تاج السر في إحياء مشروع كمرون ... وقد انتفت الآن الدوافع التي منعت الحباب بقبول المشروع مسبقا ... ثم إن التجربة الإيطالية لها مراراتها في نفوس الحباب والأهم من ذلك أطماع بريطانيا التوسعية جعلتها تسعى سعيا حثيثا وبشتى السبل لكسب ود الحباب.
لكن السياسات والمواقف تتبدل ... فمن جانب بدأت إيطاليا في استمداد قوتها من خلال إحياء مشرع الحلف الثلاثي مع المانيا والنمسا ومن جانب آخر تطمع بريطانيا في أن تساهم إيطاليا في كسر شوكة المهدية في الشرق من خلال الاستيلاء على كسلا ... ولأجل ذلك تم غض الطرف عن إثارة مشروع كمرون ولكن أن تتم مخرجاته بطريقة أخرى ...
لذلك وعندما جاءت تحركات كنتباي محمود في عملية استبدال الحباب للولاء الإيطالي بالولاء الأنجلومصري كانت أصابع الاتهام الإيطالية تشير إلى ضلوع الإنجليز في الأمر خاصة وجود محافظ سواكن والميرغني ودورهم في ترتيب كيف يتم ذلك التغببر ...
وبإتمام ذلك التغيير تنتقل حالة الحباب إلى مرحلة جديدة .... تعرف عند الإيطاليين باسم (DEFEZIONE ) وعند الإنجليز باسم (DEFECTION ) وباللغة العربية تعني (استبدال الولاء) ... وهي من أهم الفترات التي تحتاج إعادة قراءة في الأدبيات التي دونتها... كما أنها لا تفسر بمعزل عن مفردات مشروع كمرون ...
مهما كان من أمر مشروع كمرون ورفض زعماء الحباب له , إلا أنه ارتقى بالقضايا الحبابية من الاقليمية الى الدولية ... فإذا تأملنا ذلك نجد أن الشأن الحبابي كان متداولا بين دهاقنة الساسة العالميين في القرن التاسع عشر على شاكلة أغوستينو دبريتيس رئيس وزراء إيطاليا وخليفته من بعده ماركيز دي روديني ثم رئيس حكومة بريطانيا العظمى اللورد ساليسبيري وقبل كل أؤلئك الملكة فكتوريا عندما أرسلت خطابا لملك الحبشة تطلب منه الجلوس وإبرام إتفاقية مع الطليان كما فعل الحباب.
ختاماً ... ليست المقصود من نفض الغبار المخيم على إرث الحباب هو تمجيداً وتعظيما للسلف والتباهي بما قاموا به من جلائل الأعمال ... بل هو شحذ للهمم وايقاظ للإرادة لمواصلة المسيرة على الأرض باستحقاق اليوم وبمتطلبات العصر ... فالتاريخ المؤسس على تضحيات الملوك له أذن يسمع بها همس الابناء ماذا هم قائلون ... وله أعين يرى بها فعل اللأحفاد فيم هم منشغلون ... شكرا
هذة المقالة منقولة من صفحة المنتدى فى الفيس بوك https://www.facebook.com/groups/136230939761515/permalink/600942966623641/
عدل سابقا من قبل خالد على ودالعمدة في السبت سبتمبر 21, 2013 5:08 pm عدل 2 مرات | |
|