المصدر سودانيزاونلاين.كوم
هجرة الحبشة والدور التاريخي لشرق السودان (1)
كاتب المقال محمد سليمان صالح ضرار - لندن
بالرغم من مرور أكثر من ألف وأربعمائة وسبعة وثلاثين عاماً على هجرة المسلمين الأولى للحبشة، إلا أن الجدل لا زال قائماً حول تحديد
الحبشة المقصودة في الهجرة، والأسباب التي أدت لاختيارها اضافة إلى عدالة ملكها. وقبل أن نسرد قصة هذه الهجرة ومسارها ومن كان فيها من المسلمين والمسلمات وأهمية هذه المنطقة الاستراتيجية ودورها التاريخي، نستعرض آراء المؤرخين والثقاة حول الحبشة التى عناها المسلمون والعرب في هجرة الحبشة.
الحبشة عند العرب
كان العرب يطلقون اسم الحبشة على كل من اثيوبيا وشرق كل من الصومال وارتريا والسودان، وكتبوا على خرائطهم اسم البر الحبشي على الساحل الغربي للبحر الأحمر الذي يضم كل هذه الدول. وهذا الاستخدام العام لاسم الحبشة هنا، يعني أن العرب كانت تطلقه على السكان، وليس على منطقة جغرافية معينة، لأن الحدود السياسية الحالية لهذه الدول لم تكن موجودة آنذاك، وربما جاء اسم الحبشة كوصف للون السكان الأسمر، مثل اسم بلاد السودان الذي أطلقه العرب على أجزاء من قارة أفريقيا يسكنها أناس سود البشرة. وقد أرجع البعض اسم الحبشة إلى أنه مأخوذ من اسم أول قبيلة عربية هاجرت إلى الحبشة من الجزيرة العربية ألا وهي قبيلة حبشيت اليمنية وهي قبيله قضاعيه من مهرة بن حيدان، وقد يقصد بهذه القبيلة، قبيلة البلويين التي تنتمي إلى بلي بن عمرو بن الحافي بن قضاعة والتي هاجرت من حضرموت إلى شرق السودان وارتريا قبل ألف عام من الإسلام وسيطرت على الجزر والمدن الساحلية لشرق السودان وارتريا مثل باضع وسواكن وعيذاب ومصوع، وأقامت فيها ما كان يعرف بممالك الحدارب أو البلويين (راجع كتابي تاريخ البجه). ولكن هجرة هذه القبيلة تعتبر حديثة نسبياً، لأن العلاقة بين العرب والحبشة تعود لأكثر من ألف عام قبل الإسلام، لذا فمن المستبعد أن تكون هجرة قبيلة حبشيت هي أول هجرة عربية للحبشة ولا بد أن تكون قد سبقتها هجرات أقدم بكثير.
مما سبق ذكره نخلص إلى أن العرب كانوا يستخدمون كلمة الحبشة للدلالة على المنطقة التي تقاسمتها كل من اثيوبيا وارتريا والسودان. وقد عرفوها بمفهومها العام هذا وأدركوا أهميتها الاقتصادية، منذ زمن سحيق، وشهدت أرضها هجرات عربية قديمة ربما تعود لقوم عاد وثمود. وهناك رواية تشير إلى قدم الهجرات العربية إلى الحبشة، إذ تقول بأن مملكة سبأ العربية كانت في اليمن والحبشة في وقت واحد، ويدللون على هذا بوجود نهر مأرب الذي ينبع من الحدود بين اثيوبيا وارتريا، كما يقولون إنه عندما انهار سد نهر مأرب الحبشي، صبّ النهر في منطقة كسلا في شرق السودان والتي لم يكن يصلها قبل ذلك، وتقول الرواية الشعبية (الحلنقا جابوا القاش) ـ ومعناها أن نهر القاش جلبته قبيلة الحلنقا من اثيوبياـ وتغير اسم النهر في السودان من مأرب إلى القاش، وتستند هذه الرواية كذلك على وجود نهر آخر في ارتريا اسمه عنسبه أي عين سبأ، فمن أين جاء هذان الاسمان العربيان اللذان يرتبطان بمملكة سبأ؟ ومن أين جاءت رواية انهيار سد مأرب الحبشي؟ إذا لم تكن لهذه المنطقة علاقة بمملكة سبأ! ويستند البعض على أن مملكة سبأ كانت في الحبشة بالآية الكريمة (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) ويفسرون الآية بأن مملكة سبأ كانت على ربوتين احداهما في اليمن والثانية في الحبشة (اثيوبيا). أما المسيحيين من سكان الحبشة (اثيوبيا)، فإنهم يذهبون إلى أبعد من ذلك فيدّعون بأن الملكة بلقيس أنجبت ابناً من سيدنا سليمان أطلق عليه سيدنا سليمان اسم منليك، ومعناه مني لك، أي من النبي سليمان إلى الملكة بلقيس (وربما جاءت هذه الكلمة من اللغة الأمهرية التي تتطابق كثير من كلماتها مع كلمات من اللغة العربية، وقد كان نبي الله سليمان يتحدث بكل اللغات كما هو معروف). وعلى هذا يعتبر الأحباش الأثيوبيين أن السلالة الامبراطورية التي كانت تحكم اثيوبيا هي من نسل سيدنا سليمان. (راجع كتابي تاريخ سواكن) وتوجد منطقة تقع بين ميناء العقيق السوداني وجزيرة عيري يطلق عليها في الخرائط الأوربية القديمة اسم سبأ، كذلك فإنه عندما يراد الإشادة بأحد أبناء البني عامر يقال له (ود سبأ) إشارة إلى أنه من أصول عريقة علماً بأن بعض البني عامر ينتمون إلى قبيلة البلويين السابق ذكرها، فما هي علاقة هذه المنطقة وسكانها من البني عامر بمملكة سبأ؟ الموضوع يحتاج لمزيد من البحث والتقصي.
أما بالنسبة للّغات السامية في الحبشة بمفهومها الجغرافي العام، وهي الأمهرية والتجرينية والتيجرية، فجميعها لغات سامية جعزية، وتكتب بالحرف المسند، وكانت هذه اللغات مستخدمة في اليمن قديماً، وأقربها للغة قريش هي اللغة التيجرية التي اشتق اسمها من كلمة تجارة بالنطق اليمني لحرف الجيم. وهناك من المؤرخين من يرى بأن الحبشة هي أصل اليمن ومنها هاجر قسم من الأحباش إلى اليمن فأصبحوا يمنيين، وليس العكس. وقديماً استعمر الأحباش اليمن، كما حاولوا هدم الكعبة في حملة أبرهة الأشرم، مما يدل على أنه كانت هناك علاقة قديمة مستمرة بين أمتي ساحلي البحر الأحمر في الحرب والسلم وتبادلوا التجارة وتعلموا بهذا الاحتكاك لغات بعضهم البعض مما جعل المهاجرين المسلمين الأوائل لا يحتاجون لمترجم حينما تحاوروا مع مستضيفهم النجاشي خاصة وأن المهاجرين كانوا من المتحدثين بلغة قريش وهي، كما سبق وذكرنا، أقرب إلى اللغة التيجرية التي كان يتكلمها النجاشي وشعبه في ذلك الزمان. وقد رُوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم نطق ببعض كلماتها.
الحبشة ليست اثيوبيا
يرى البعض أن الحبشة المعنية في هجرة المسلمين الأولى للحبشة، هي اثيوبيا الحالية، ولكن، كما نعرف، فإن اثيوبيا دولة مغلقة لا بحر لها، وأنه لا يمكن الوصول إليها بحراً إلا بالمرور عبر الساحل الذي يضم كل من شرق ارتريا والسودان والصومال، وفي هذا العبور مشقة ومخاطرة أمنية وإطالة لزمن الرحلة، وعلى الجانب الآخر فإننا نعلم أن الرحلة البحرية إلى الحبشة لم تستغرق سوى أيام معدودات للوصول إلى باضع ميناء الوصول حيث كان يوجد النجاشي. أضف إلى ذلك أن وفد هجرة الحبشة الأولى مكث في الحبشة المذكورة أقل من ثلاثة شهور. وهذه فترة قصيرة جداً مقارنة بالوقت الذي يستغرقه السفر في تخوم اثيوبيا للوصول لعاصمة ملكها حيث تستغرق الرحلة إليها شهوراً عدة. وإذا كان المقصود من السفر إلى أثيوبيا هو الوصول إلى أكسوم، فإن دولة أكسوم كانت تمتد على مساحة شاسعة، وصلت حتى ملتقى النيلين، كذلك شملت دولة أكسوم أجزاء من شرق السودان الحالي، والدليل على هذا وجود مدينة أكسومية قديمة اسمها (نبت) تقع بالقرب من مدينة سنكات، وبها مقابر قديمة كتب على بعض شواهدها باللغة العربية اسم اكسوم، وهو اسم عربي. ويروى عن العرب أنهم كانوا يصفون الاثيوبيات بالجمال، بينما يصفون الأحباش، سكان منطقة هجرة الحبشة، بعكس ذلك ويشبهون شعرهم بالزبيبة، راجع الحديث (وان تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة). من كل هذا نصل إلى أن الحبشة المعنية في هجرة الحبشة ليست اثيوبيا الحالية بل هي منطقة في شرق السودان وشمال شرق ارتريا، وقد أكد على ذلك البروفسير مكي شبيكه، إذ قال إن منطقة هجرة الحبشة كانت في خور بركة، وهو يقع في شرق السودان وارتريا. وسنوضح هذا بعد أن نتابع هجرتي الصحابة الأولى والثانية إلى الحبشة.
هجرة الحبشة الأولى
انطلقت هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة في السادس من شهر رجب بعد خمس سنوات من النبوة، أي قبل سبع سنوات من الهجرة إلى المدينة المنورة. فبعد أن ازداد أذى المشركين على المسلمين وأصبح مهدداً خطيراً ظل يتفاقم صباح كل فجر جديد، أمر الرسول (ص) أصحابه بالهجرة إلى الحبشة وقال لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يُظلَم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه". شدّ المسلمون رحالهم بحراً من ميناء شعيبة السعودي الواقع بالقرب من مدينة جدة، وضم وفد المهاجرين أحد عشر رجلاً مسلماً وأربع نساء مسلمات، ودفع كل منهم نصف دينار أجراً للرحلة. وتوجهوا في سفينتين شراعيتين إلى الحبشة التي كان يحكمها ملك عادل، ونزلوا في ميناء باضع (وهو جزيرة عيري وفق رأي كل من البروفسير يوسف فضل والدكتور صلاح الدين الشامي والمستر كروفورد والمستر أندرو بول وقسم الآثار في جامعة كمبردج الذي يقوم حالياً بالتنقيب عن الآثار في هذه الجزيرة).
كان رئيس المهاجرين عثمان بن عفان ومعه كل من السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعهما أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، معه امرأته: سهلة بنت سهيل بن عمرو، ولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة، والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار، وعبدالرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وعامر بن ربيعة، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رُهْم بن عبدالعزي بن أبي قيس، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس، وسهيل بن وهب بن ربيعة.
هجرة الحبشة الثانية
ولم تكن تلك الهجرة هي آخر هجرة للمسلمين لأراضي البني عامر البلويين، لأنه ما لبثت أن وصلت إلى باضع جماعة أخرى من مهاجري المسلمين تتكون من ثلاثة وثمانين رجلا ومن النساء ثماني عشرة امرأة، وربما كان معهم عمّار بن ياسر الذي شيّد أول مسجد في الإسلام والذي كان في أرض النجاشي في باضع، أما مسجد قباء فهو أول مسجد في الجزيرة العربية. وكان رئيس وفد الهجرة الثانية جعفر بن أبي طالب بالرغم من صغر سنه، وأقام المهاجرون بأرض الحبشة عند النجاشي. وفي تلك الأثناء قام أبوموسى الأشعري ونحواً من الخمسين من الاشعريين، بركوب البحر من اليمن يقصدون الهجرة إلي المدينة عن طريق البحر، فعصفت عاصفة باعدت سفينة الأشعريين من ساحل جزيرة العرب، واضطرتهم للنزول في ساحل إفريقيا، وذلك بعد أن اقتربوا من ناحية الشعيبة، بدليل أنهم لما قذفتهم العاصفة في الساحل وافقوا مكان نزول جعفر واصحابه من الحبشة، فلقوا جعفراً وأصحابه عند الساحل فمكثوا معهم. وقد عاد بعض هؤلاء المهاجرين إلى اوطانهم فيما بعد، ولكن بقيت أعداد منهم هناك في أرض الحبشة وفي أراضي بني عامر في السودان وارتريا. وتوجد في ارتريا على مقربة من حدودها مع السودان، قرية أنشأها الصحابة عند قدومهم مع الهجرة تسمى (صحابينا) وهي مجاورة لميناء أرافي الارتري، وتسكنها اليوم عائلة يطلق عليها اسم (عالا) وتعريبها (أصحابنا) راجع كتاب المؤرخ محمد صالح ضرار (تاريخ الحباب والحماسين في ارتريا والسودان ص 160). كذلك توجد على مسافة ستين ميلاً جنوب غرب مدينة سواكن مقابر قديمة تعرف باسم مقابر الصحابة، ويعتقد أنها للمهاجرين من الصحابة.
المصدر سودانيزاونلاين.كوم