هل المقصود بالسودان هذه الرقعة الجغرافية المعروفة لنا اليوم بحدودها السياسية، أم أرض البجة التي
بسط فيها ملوك الحبشة سلطانهم، وشمولوها مع غيرها في غابر الأزمان بحكمهم، لا سيما في عهد الملك
عيزانا (330 ق.م )" صاحب اللوحات، التي عثرت عليها البعثة الألمانية الأولى في سنة 1905م والتي
دون عليها هذا الملك أخبار حملاته الحربية... واتسعت مملكته حتى شملت أكسوم، وحمير، وريدان،
وسبأ، وصالحين، وسيامو، وبيجة، وكاسو.
يقول د. زاهر رياض، مؤلف كتاب (تاريخ إثيوبيا) ص37 : " أما أكسوم فعاصمته، وحمير وريدان،
وسبأ، وصالحين، في اليمن، أما بيجة فلا شك أنه يعني بها قبائل البجة، التي كانت تسكن بين النيل
والبحر، وكاسو هي قبائل كوش، التي كانت تسكن ضفاف النيل النوبي جنوبي الشلال الثاني."
على ضوء هذا النص نجد أن نفوذ مملكة أكسوم وحدودها اتسع إلىأبعد من حدود الهضبة الحبشية ليضم
أمما وشعوبا مجاورة، ومحاددة، وومغايرة، لغة، وعرقا، ولونا، فاللون الحبشي ليس هو اللون السوداني،
انطلاقا من مدلول كلمة حبشي، فإن هذه الكلمة تعني اللون المختلط، أو الجماعة المختلطة، والمتأمل في
الحبشي يجد ملامحه تنزع إلى الملامح العربية السامية أكثر من نزوعها إلى الزنجية، كما أن بلاده ذات
خليط بشري، تحوي الحامي، والكوشي، بجانب السامي، ولذا أصدق اسم ينطبق عليها هو اسم الحبشة،
وليس إثيوبيا التي تعني الوجه المحروق، ومن ذلك كلمة حباشة التي أوردها ياقوت الحموي في معجمه
قائلا: حباشة: بالضم، والشين معجمة، وأصل الحباشة الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة.../
معجم البلدان/ج2/210
وفي لغة التجري يسمون الشاة المنقوطة بالبياض والسواد من الشعر معا: (طليت حبشايت)، بخلاف
السوداء، فإنهم يسمونها (طلام)، أو (جانايت...أو جاناي)، ربما من الجن، لكونها تشق رؤيتها، ويصعب
تبينها في الظلام، كالجن يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه، وأن كلمة السودان، يقابلها البيضان، وليس
الحبشان، وإن كان الحبشان على العموم، جنس من أجناس السودان.
وعلى هذا إذا كان المقصود أن السودان الحالي كان جزءا من الحبشة، يوم هاجر إليها الصحابة فذلك أمر
غير مستبعد، لذلك التوسع والتمدد الذي أحرزه ملوك الحبشه، وتباهى به عيزانا، وليس في هذا أدنى
مساس بالحقيقة التاريخية المعروفة لدى الجميع بشأن هجرة الصحابة إلى الحبشة، وتبقى الحبشة هي
الحبشة، مركز مملكتها، ومستقر نجاشيها أكسوم، وما سواها يبقى من ملحقاتها وتوابعها.
وفي هذه الحالة، لا مسوغ تاريخي يسوغ حذف اسم الحبشة وإحلال اسم السودان محلها في مؤلف
يتحدث عن هجرة الصحابة الأولى والثانية إلى الحبشة، على النحو الذي عنون به الشيخ قريب الله مؤلفه
(السودان دار الهجرتين الأولى والثانية للصحابة)، فإن في هذا تغييبا متعمدا للأصل، وتغليبا لجانب الفرع
عليه، وتضخيما له على حساب المركز، دون أن يعني استغراب هذا الصنيع مني وعدم استساغته غلق
باب الجدل حول ما إذا كان المينآء الإرتري باضع (مصوع) هو معبرهم الذي سلكوه إلى النجاشي، أم
مينآء سواكن، كما هو رأي الشيخ قريب الله .
أما إذا كان المقصود بأن هذه الرقعة الجغرافية المعروفة الآن بجمهورية السودان هي التي حملت اسم
الحبشة فيما مضى من الزمان، وعليها نشأت حضارة الحبشة، ومنها بسط الأحباش ملكهم وسلطانهم إلى
من حولها، وفيها قابل الصحابة ملك الحبشة النجاشي، فذلك أمر فيه نظر، وغير مسلم، لما في ذلك من
مجافاة الحقيقة التاريخية، التي أجمع عليها المؤرخون، من أن الحبشة اسم لتلك القبائل السامية، التي
عبرت البحر الأحمر، من الجزيرة العربية، وبنت حضارة أكسوم التاريخية.
يقول المؤرخ البريطاني أ. بول في كتابه: (تاريخ قبائل البجا بشرق السودان ص 32): عبر السبئيون
الذين كانوا يشكلون القوة الغالبة في جنوب الجزيرة العربية البحر الأحمر بحثا عن التجارة، واحتلوا
جزيرة دهلك الساحلية، ومن ثم توغلوا إلى الداخل ليستقروا في أرض تقرنيا، [ يعني تجراي] الواقعة
الآن فيما يعرف بإرتريا وإثيوبيا، كان ذلك بزمن سحيق من مجيئ المسيح، قد يكون ذلك في عام 1000
قبل الميلاد، أو عام 600 قبل الميلاد.".
ودهلك حاليا هي إحدى الجزر الإرترية في البحر الأحمر، يقول فيها ياقوت الحموي في معجم البلدان/ج2/492: "دهلك...
اسم أعجمي معرب... وهي جزيرة في بحر اليمن، وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة، بلدة ضيقة
حرجة، كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها.
وقال أبو المقدام:
ولو أصبحت خلف الثريا لزرتها
بنفسي ولو كانت بدهلك دورها.
وقال أبو الفتح نصر الله، بن عبد الله الإسكندري:
وأقبح بدهلك من بلدة
فكل امرئ حلها هالك
كفاك دليلا على أنها
جحيم وخازنها مالك.
وبقليل من التأمل في قول الحموي عن دهلك إنها: (مرسى بين بلاد اليمن والحبشة) ندرك أن الحبشة هي
هذه الديار المجاورة لجزيرة دهلك الإرترية، والمعروفة اليوم بـ(إثيوبيا)، كما أن اليمن هو هذا اليمن
المجاور لها أيضا، وهذا ما نشاهده بأم أعيينا، وتواطأ عليه جغرافيو العرب قاطبة، قديما وحديثا، من غير
شذوذ ولا نكير.
كما أن الحيمي الذي زار الحبشة في القرن السابع عشر الميلادي مبعوثا من إمام اليمن المتوكل على الله
إسماعيل بن القاسم (1645 ـ 1675 م ) إلى (فاسيلداس)، ملك الحبشة، عبر البحر الأحمر من مينآء
مخة إلى بيلول، قاصدا العاصمة (قندر) حيث يوجد الملك المذكور، ودون رحلته هذه في مذكرة سماها
سيرة الحبشة، ولم يسمها مثلا سيرة السودان.
ويقول بول أيضا نقلا عن بعض المؤرخين: " طرد الأحباش من سواحلهم العابقة بالبخور بالجزيرة
العربية، وحرموا من أنشطتهم التجارية في قواردفوي، وبدأوا يبحثون لنفسهم موطنا جديدا في مرتفعات
التقري [ يعني التجراي] حيث أسسوا سلطتهم في المدينة التي سميت فيما بعد بأكسوم." انظر ص 34
ويحدد الفترة التاريخية التي نشأت فيها مملكة أكسوم بقوله: ولكن الذي لا شك فيه أن مملكت أكسوم
قامت حوالي عام 60 قبل الميلاد..." ص35.
ويسمي النجاشي الذي استقبل الصحابة المهاجرين إليه، فيقول هو: " (أرمها) الذي أعطى الحماية
لأصحاب محمد، الذين هاجروا من مكة، واجتمعوا به في الفترة ما بين 610 ـ 629 م".
ويقول عنه في موضع آخر : " عدد ملوك أكسوم المعروفين لدينا قليل، منهم "أرمها" الذي استقبل
وأعطى الحماية لأوائل المسلمين المهاجرين إليه..." /36
ويصفه بأنه " آخر ملوك أكسوم، الذين ذكرهم التاريخ... بعد ذلك ضعف نفوذ أكسوم وتلاشى مجدها،
بسبب الهجمات العربية عام 640 م، والتي تسببت في القضاء على مينائها في أدوليس..."/41
أما المصادر العربية فتسميه أصحمة، حيث أورد ابن كثير في البداية والنهاية ج3 ص83 ذلك الخطاب
الذي أرسله إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع عمرو بن الضمري، فقال: بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم عمرو بن الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتابا: بسم
الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك فإني أحمد إليك
الملك القدوس، المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته القاها إلى مريم البتول الطاهرة
الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخته، وإني أدعوك إلى الله
وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله، وقد
بعثت إليك ابن عمي جعفرا، ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فاقرهم ودع التجبر، فإني أدعوك
وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى.
وقد أجابه النجاشي معلنا إسلامه بقوله: وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد
أنك رسول الله، صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين...
المصدر نفسه/ 84
أما فيما يتعلق بميناء الدخول إلى الديار الحبشية فينقل الأستاذ سليمان صالح ضرار في مخطوطته البجة
ص74 من كتاب المؤرخ الأوروبي بضج : (تاريخ إثيوبيا ص 270 ) قوله: في سنة 615 أي قبل
الهجرة إلى المدينة بسبع سنوات، ركب البحر من ميناء شعيبة الحجازي بالقرب من جدة أحد عشر رجلا
مسلما وأربع نساء مسلمات، ودفع كل منهم نصف دينار، وتوجهوا في سفينتين إلى باضع، أي جزيرة
عقيتاي، وكانوا في طريقهم إلى الحبشة التي كان يحكمها ملك عادل.
ثم علق على هذا النص بقوله: "هذه الجزيرة هي عاصمة مملكة بني عامر، التي تسمى جارين، واستقبل
أفراد قبيلة بني عامر هؤلاء المهاجرين، ورحبوا بهم، وأعطوهم الأمان للنزول في أرض مملكتهم، وبذا
تكون هذه القبيلة البجاوية هي أول شعب يعطي الأمان للمسلمين، ولأول مهاجريهم خارج الجزيرة
العربية..." ص75.
والمسافة من باضع إلى أكسوم أقرب منها من سواكن إلى أكسوم، ثم أن باضع كانت الميناء التجاري لأهل
الحبشة، يأتون إليها ببضائعهم لمقايضتها بما يحتاجون إليه، كما يقول صاحب معجم اليلدان ياقوت
الحموي، وهذه المكانة التجارية لباضع لدى الحبشة، إضافة إلى قربها لمقر النجاشي، لا بد أن تجعل منها
على الأرجح ميناء الوصول المفضل إلى النجاشي أكثر من غيرها.
ويعزز نعوم شقير من وجاهة هذه الرؤية وقوتها، في كتابه (تاريخ السودان) ص 40 فيقول عن مصوع،
وهو يتحدث عن ميناء أدوليس: ويعرف "الآن بميناء زولا، على عشرين ميلا إلى الجنوب من مصوع،
وهي ميناء أكسوم".
وشهد الصحابة بعد وصولهم حدوث تمرد على هذا النجاشي، فخافوا من أن يفقدوا حق اللجوء السياسي،
بمجيئ حاكم ظالم، لا يعرفه لهم، فانتابهم القلق، وتابعوا المحاولة الإنقلابية ـ إن صح التعبير ـ التي جرت
عليه، بإرسال واحد منهم إلى ساحة معركتها، وهو الزبير بن العوام الذي عبر النيل سباحة إلى الجهة
التي شهدت ملتقى الفريقين، بقربة منفوخة جعلها في صدره، ثم عاد وهو يحمل نبأ إخفاق المحاولة
الانقلابية، وتغلب النجاشي على خصمه، مما أعاد الإطمئنان إلى نفوسهم. ابن هشام السيرة النبوية/ج1
/ص351
وقد نمى إلى علمي أن هذه المعركة الإنقلابية من شواهد القائلين بأن السودان هو دار هجرة الصحابة،
وإن كنت لا أستطيع الآن بيان وجه دلالتها على ما ذهبوا إليه، غير أنه يبدو لي ـ وهذا مجرد افتراض ـ
أن حدوثها على جانب النيل، هو الذي حملهم على هذا القول.
لكن ما الذي يمنع من أن تكون هذه المعركة وقعت في الحبشة ذاتها، حيث بحيرة (تانا)
بجوار بلدة (بحر دار)، ومعلوم أن النيل الأزرق المعروف في إثيوبيا (بأباي الكبير) يبدأ من هذه
البحيرة، وإذا افترضنا جدلا أن المعركة حدثت في السودان الحالي، وأن الزبير بن العوام عبر النيل إلى
الجانب الذي وقعت فيه المعركة، من أرض السودان، فمن أين كان هذا العبور، إن لم يكن من مقر
النجاشي، حيث مركز الدولة وعاصمتها؟ ثم ما المانع من أن يكون حدث هذا التمرد في هذا الجانب، من
أرض المملكة، وأن النجاشي سير الجيش من مقر حكمه أكسوم [ إقليم التجراي ] للقضاء عليه، وأن
الصحابة لاهتمامهم بالأمر، صحبوا هذا الجيش، وأوفدوا معه من يتابع لهم أمر المعركة، وكان هذا
الصاحب، والمتابع الزبير بن العوام رضي الله عنه؟.
أما المناضل محمد سعيد ناود فيقول: "إنَّ نجاشي الحبشة كان في (دباروا) ولدينا مجموعة حقائق تثبت
هذا الكلام . نحن كإرتريين المسألة بالنسبة لنا معروفة لأنه كانت توجد في (دباروا) حضارة , لكن هناك
غيرنا بحثوا في هذه القضية فمثلاً بحكم أنَّ ( دباروا) كان فيها النجاشي , وهذا النجاشي أسمه( بحر
نقاش) و( بحر نقاش) هو المسئول عن شواطئ البحر كلها و البحر عندنا في إرتريا و بالتالي ف (بحر
نقاش ) هو المسئول عن هذه الشواطئ . أول من يقول و يؤكد الحقيقة المهندس المصري( فتحي غيث)
في كتابه (الإسلام و الحبشة عبر التاريخ) وقد كُتِبَ هذا الكتاب في مرحلة الستينيات , و بالصدفة التقيت
هذا الرجل في ذلك الوقت , في القاهرة , فهو عاش فترة في الحبشة كمهندس يقول : (( يشكِّك بعض
الكتَّاب في وجود مثل هذا النجاشي في الحبشة أي أثيوبيا الحالية )).
لكن كيف يستقيم هذا وأن إرتريا لم تكن معروفة، وإن ( دباروا) سواء كانت مقر نجاشي البحر، أو
النجاشي العام، فإنها كانت واحدة من مملكة أكسوم التي شملت ضمن ما شملت الهضبة الحبشية في
إرتريا اليوم، وما إرتريا إلا تركيبة استعمارية حديثة، إسما وتكوينا.
وفي هذا يقول الاستاذ فتحي غيث في كتابه الإسلام والحبشة عبر التاريخ ص 8
نقلا عن Ethiopia to day تأليف إرنست لوذر أن " أكسوم لم تكن تشمل إلا تلك المنطقة الواقعة في
شمال الحبشة الحالية ومنتصفها فوق المرتفعات، وتشمل بناء على ذلك الجزء الجبلي المرتفع في إرتريا
الحالية الذي يشكل امتدادا طبيعيا لمقاطعة التيجراي".
فديباروا وما تقع فيه يشكل في النهاية امتدادا طبيعيا لمقاطعة التجراي، وأن هذا الامتداد كان جزءا من
مملكة أكسوم التاريخية، وكون ديباروا كانت مقر نجاشي البحر، وإنها ليست في إثيوبيا اليوم، لا يغير من
كون أن هذا النجاشي هو نجاشي الحبشة.
ومما يقوي أن هجرة الصحابة لم تكن إلى السودان، وإنما كانت إلى الحبشة، ما كانت تتميز به الحبشة
وقتها من وجود فعلي، ودور إقليمي مشهود ومعتبر، أهلها لأن تكون حليفة الرومان، " حتى أن غزو
الحبشة لجنوب شبه الجزيرة العربية لم تتم إلا بالمساعدة الرومانية الشرقية، ولذا كان البحر الأحمر
مشتركا بينهما، أي بحيرة حبشية رومانية" كما هو نص كلام الدكتور مراد كامل محقق كتاب (سيرة
الحبشة) للحسن بن أحمد الحيمي، في حديثه عن علاقة الحبشة بالعالم الخارجي ص18 من دراسته
للكتاب المشار إليه، وكذلك لما كان لها من تأثير سياسي، واقتصادي، وديني في الجزيرة العربية بالتحديد،
فإنها كما يقول ابن الجوزي في المنتظم ج2ص374 وهو يتحدث عن هجرة الصحابة إلى الحبشة:
"كانت أرض الحبشة متجر قريش".
ومعنى هذا أن القرشيين كانوا يعرفونها من قبل البعثة، وأن صلتهم بها سابقة لظهور الإسلام، وأنهم
تتردوا عليها مرارا وتكرارا ببضائع تجارية، ينقلونها منها وإليها، ووقتها لم يكن السودان شيئا مذكورا،
لذا من الصعب صرف هذا الإسم ( الحبشة) إلى بلد غير بلاد الحبشة (إثيوبيا) اليوم، يضاف إلى هذا لغة
المحادثة التي نطق بها النجاشي في تأكيده لضمان سلامة الصحابة رضوان الله عليهم، ففي حين كانت
البداويت (لغة البجة) هي السائدة في مضارب البجة، كانت السبأية، أو سمها الجئزية، هي المهيمن
والمستعمل في قلب مملكة الحبشة، وأن نجاشي الصحابة رضوان الله عليهم كان ينطق بها.
يقول ابن هشام في سيرته: قال النجاشي للصحابة: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي [ قال ابن هشام: والشيوم
الآمنون]... ما أحب أن لي دبرا من ذهب، ويقال: فأنتم سيوم [ قال ابن هشام: والدبر بلسان الحبشة:
الجبل] السيرة النبوية/ج1/351.
وما زالت هذه المفردات مستخدمة حتى هذه اللحظة، ففي لغة التجري يقال للزعيم القبلي: شوم، ومن هنا
أن ترجمتها بزعماء أدق من ترجمة ابن هشام لها بآمنين، ويقال للجبل: دبر، وفي التجرنية أن سيوم اسم
علم على الذات، على سبيل المثال: سيوم عقبامكئيل، رئيس المجلس الثوري، جبهة تحرير إرتريا، وله
مدلوله بالتأكيد،.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم ببعض المفردات الحبشية من ذلك كلمة (سني) فقال وهو يداعب تلك
الجارية التي ولدت في بلاد الحبشة، وجاءت وهي تتكلم لغة الحبشة، عندما رأى عليها ثوبا من ثياب
الحبشة الجميلة: ( سنه، سنه) أي جميل، جميل. وهذا التعبير بعينه هو المستخدم في التجري، فيقولون:
سنيت لهبنا ولهبك... وسنيتك لأرإينا... وقدام سنيت... وهكذا.
ولقد حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الحبشة فضلهم هذا، فلم يسير الجيوش إلى أرضهم لفتحها،
وعرفت الحبشة في التاريخ الإسلامي بدار عهد وأمان، وقال عنها: دعوا الحبشة ما دعوكم، [ إن صح
الحديث] كما أنه صلى الله عليه وسلم استمتع هو وزوجه عائشة رضي الله عنها بمشاهدة الفلكلور
الحبشي، حيث منح الأحباش فرصة اللعب واستعراض تراثهم الحبشي، في فناء مسجده صلى الله عليه
وآله وسلم.
وكان ينهض بنفسه إلى خدمة وفودهم عرفانا بجميلهم الذي صنعوه مع أصحابه، فقد ذكر ابن كثير ما
رواه البيهقي بسنده قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام يخدمهم، فقال
أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافيهم" البداية
والنهاية ج3/ ص 78.
وأصبح الحبش جزءا من النسيج الحضاري الإسلامي، وشاركوا في عمارة الأمصار الإسلامية، وصارت
لهم أحياء ومعالم تعرف بهم، من ذلك درب الحبش في البصرة، وقصر حبش في تكريت، ومزرعة بركة
الحبش بمصر، وفي هذا يقول الحموي في معجمه: "...درب الحبش بالبصرة، في خطة هذيل نسب إلى
حبش أسكنهم عمر رضي الله عنه بالبصرة، ويلي هذا الدرب مسجد أبي بكر الهذلي، وقصر حبش موضع
قرب تكريت فيه مزارع... وبركة الحبش مزرعة نزهة في ظهر القرافة بمصر...".
وضيق العرف العام في بلادنا اليوم من كلمة الحبشي، فلم تعد تعني عندنا ذلك المدلول الشامل، وإنما
تقلصت إلى نطاق أضيق، لتصبح نقيض المسلم، ولهذا يقال: حبشتاي مإسليماي. وحلة حبش، تماما كما
يقال في مصر: قبطي، أم مسلم، في حين أن معظم المصريين في أصولهم أقباط اعتنقوا الإسلام.
والله أعلم
وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح
عميد كلية لند المفتوحة واستاذ بجامعة الأمير نايف للعلوم الأمنية