المقال بعنوان القبائل المشتركة بين أريتريا والسودان
المصدر صحيفة الصحافة
المقال بأسم عبد القادر ادريس
قد خلق الله الناس قبائل وشعوباً وجعل لها مواطن تقطنها وارضاً ترتبط بها في حياتها ارتباط الام بولدها، ونحن لها، وتدافع عنها، والارض لها تأثيرها على الانسان من حيث الارتباط والانتفاع بها، ولكن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية لها دورها في هجرة القبائل والعشائر من بقعة لأخرى أو التمدد والتواصل بين مختلف المواطنين.
وقد تكونت في الفترات الجاهلية من القبائل والقوميات عدة ممالك وسلطنات، او تجمعات عشائرية تتبادل المنافع وتجمعها المصالح المشتركة، ولكنها أيضا تكتنفها حالات من الحروب والقتال والثأرات بين القبائل ونظيراتها، او بين الممالك والأخر، فتتشكل اوضاع جديدة من الوجود الحضري والقبلي والاقليمي.
فلما جاء الاسلام تحول الوضع إلى وحدة سياسية ودينية في الجزيرة العربية، ثم تمدد سلطان الدولة الاسلامية وانتشرت الدعوة بين القبائل والامم ـ وبالجهاد تمت الفتوحات ـ ومما بلغه الاسلام من الارض والشعوب منطقة ساحل البحر الاحمر الافريقي الذي هو معبر التواصل وطريق الهجرات القديمة والمتأخرة بين الجزيرة وافريقيا. وعندما جاء الاسلام الى منطقة البحر الاحمر الساحل الافريقي، جمع القبائل والقوميات، وبسط الدعوة ومد سلطان الدولة فيها، فانضوت في سقف دولة واحدة، او دويلات، وسلطنات اسلامية في سني ضعف الدولة الاسلامية، لكن الرباط السياسي والديني بينها قوي.
وفي العصر الحديث جاء الاستعمار فأسقط الدولة الاسلامية وحارب السلطنات والممالك، وغير الخريطة الاقليمية والاجتماعية وصاغها صياغة جغرافية سياسية جديدة. قطع الاقليم الواحد الى اقاليم وجزأ القبيلة والقومية الواحدة الى اجزاء بل والاسرة الواحدة وحد بينها بحدود سياسية تحمي بقوة السلطان، وسلطان القانون السياسي حتى لا يتم التواصل بين اجزاء القبيلة الواحدة ولتكون في المستقبل بؤر افتعال الازمات الاقليمية والقبلية التي يؤججها في الوقت المناسب تحت مسمى الاقليات وغيرها.
وضع وحالة القبائل في هذه المنطقة
إن القبائل المشتركة بين السودان واريتريا ـ قبائل البني عامر والحباب ـ هي قبال عربية مسلمة، تمثل امتداداًً اقليمياًً وقبلياًً في المنطقة يذكر بعهد ما قبل الاستعمار، من حيث وحدة الاقليم، والوضعية السياسية والاقليمية لهذه المنطقة التي كانت قبل التقسيم الاستعماري تمثل تكويناًً وترابطاًً واحداًً من حيث السكان والارض ـ من خلفية الرباط الاسلامي للتكوين السياسي للمنطقة ومن خلفية الرباط الاجتماعي.
ولكن لما جاء الاستعمار وضع سيف التفريق والتقطيع في المنطقة وهو هدف اساسي من اهدافه لتقطيع وتفتيت العالم الاسلامي حتى لا يكون وحدة سياسية واحدة وحجر الامم الاسلامية ضمن اطر وطنيات ضيقة يتم حولها تقطيع الاواصر القديمة بل تقطيع الاسرة الواحدة ومن القوانين التي تؤصل هذه الناحية.
هذه القبائل صاحبة الارض والحق التاريخي في منطقة شرق السودان والبحر الاحمر، الممتد الى داخل اريتريا والى حدود مصر شمالاً، إذ الواقع الاجتماعي والحقائق والمرويات التاريخية، والارث الشعبي في هذه المنطقة يثبت ذلك، مما يجعلها في وضع المشاركة في وطنين حسب التقسيم الاقليمي الحالي، بينما هم وحدة اقليمية وقبلية واحدة بحسب حقيقة الامر والخلفية التاريخية القديمة، ولكن الحرب الثورية الاريترية كان لها دورها الكبير والمؤثر على عدم استقرار هذه القبائل ضمن وضعها الطبيعي.
هذه القبائل -قبائل البني عامر والحباب- توجد في المنطقة الشرقية من السودان موطنها ونطاق تحركها تعيش حياة بدوية وشبه حضرية ولكن تبدلات الحياة وتحولات الاوضاع المعيشية جعلها تسكن في المدن وتشارك في الحواضر، وتتفاعل مع مطالب المدينة من سكن واستقرار وتعليم، وسفر من منطقة لأخرى، والمشاركة في مختلف المهن، وهي تمتاز بالمسالمة والمعاملة بالحسنى مع الآخرين، كما انها ذات دين صاغ اخلاقها بحسن المعاملة وطيب المعاشرة مع اتصافها بالشجاعة والخبرة بالحروب والبأس عند الحاجة لذلك ولكنها تميل الى المسالمة وكف الاذى عن الناس، وهي سريعة التحضر والتحول الى المدينة، وتشكل كثافة سكانية عالية في المدن مشاركاتها مشهودة في هذا الوطن، بالتضحية والفداء، قدمت الكثير المعروف في التاريخ السابق والتاريخ المعاصر، وتبذل الاعطية المختلفة بسخاء من كريم اموالها في شتى المناسبات الرسمية والشعبية.
هذه هي وضعية قبائل البني عامر والحباب وخلفياتها التاريخية والاقليمية. ولكن هذا الوضع يتعامل معه بحساسية مفتعلة من قبل بعض افراد الاجهزة المسؤولة او تتربص بها عناصر حاقدة على هذه القبائل وتريد تأجيج الفتنة وإثارة النعرات، باستخدام الاساليب الرسمية لمحاربة هذه القبائل، وبحسبان ان هذه الحساسية ليست سياسية حكومية رسمية، انما هي صنع بعض المحسوبين الا انها تأخذ طابع الرسمية.
ينظر الى هذه القبائل بأنها متسللة غريبة ليس لها حق المواطنة مع ان هناك قبائل وعشائر وافدة مالها من حقوق وامتيازات ومعاملات، فوق ما تحلم به هذه القبائل، بل اصبحت هي صاحبة الارض والوطن، وهذه الجهات بنظرتها هذه لقبائل البني عامر والحباب تتعامل معها بأساليب اختزال وتطويق وغمط حقوقها حتى في مجرد المواطنة، خاصة هذه القوميات حضرية او قابلة للتحضر السريع، فتسعى لعرقلة أي حقوق تصل إليها. كما تتم المساءلة الامنية والقانونية في تحركات السفر وغيرها، مما يولد حالة إحباط وترسيخ تفكير منطلق من الغبن الذي ربما يشكل في المستقبل صوراً من عدم الاستقرار في المنطقة ونشوء النزاعات خاصة اذا غذيت من قوى خارجية عدوة، فان التعامل مع هذه القبائل اذا لم يكن من مبدأ انها قبائل ذات امتداد اقليمي وقبلي ـ وانها صاحبة ارض وصاحبة حق مشروع في المواطنة ـ كما ان هذه الجهات التي تفتعل الحساسية في المنطقة اذا لم يتم تجريدها من ادوارها، فإن وضع هذه القبائل في المنطقة سيتعقد.
رغم تلك الخلفية المذكورة سابقاً عن هذه القبائل فان مظالم كثيرة وقعت على هذه القبائل، قائمة على اساس تعامل بعض الجهات المسؤولة، مع مسألة التشابك والتداخل بافتعال الحساسية الامنية واستخدام اساليب اختزال وتطويق لهذه القوميات ومنع حقوقها او اضعافه فان هذه القبائل تفتقد حقوق المواطنة في السودان..
ويتمثل ذلك في المضايقات المختلفة في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والشعارات والاوصاف والالقاب التي تطلق عليها ما هي الا حرب اعلامية ونوع آخر من التضييق.
ومنها أساليب الملاحقة الامنية في مراكز التفتيش في الطرق السفرية وغيرها، والانتقائية السافرة في فرز عناصر هذه القبائل في البصات السفرية وغيرها واخضاعها للتحقيق والمساءلة رغم وجود اوراق الهوية لدى الافراد بل في حالات يتم حجزها وامتهان أصحابها واهانتهم. وتعد سافر على شخصياتهم، بل واهانة بعض عمد ومشايخ هذه القبائل.
ان حماية أمن البلاد لا يقوم على غمط حقوق الناس وامتهان كرامتهم، ولا يبنى على اصل الظلم، انما يبنى على العدل والمساواة وإزالة الغبن. كما ان التوصيف الخاطيء والمعالجة الخاطئة التي تبنى على نزع صفة المواطنة والمضايقة في الحقوق المشروعة ليس حلاً، انما هو تأزيم للموقف وافتعال للمشكلة وتأجيج للصراع والمهددات الامنية وتكريس للنهج العدائي المحارب، الذي لا تحمد عقباه ويكون الحل حينها صعباًً، وافتعال اية مشكلة في هذه المنطقة كفيل بتهديد الوضع الامني ووسيلة للتدخلات الخارجية المتربصة بالسودان والمظلوم يسعى للتحالف مع اية جهة لرفع الظلم عنه.
هذه القوميات لها امتداداتها الاقليمية والقبلية بين اريتريا والسودان بحيث يجعل لها الصفتين كأوضاع كثير من قبائل التداخل القبلي بين السودان وبعض دول الجوار والناظر في اوضاعها يجد ان التعامل معها مختلف عن التعامل مع قبائل الحباب والبني عامر فحقوق تلك مصونة، وحقوق هذه مهدرة، لا تستطيع ان تعيش ضمن وضعها الطبيعي الذي يجعلها امتداداًً اقليمياً ايجابياًً وهو لا يعتبر سيئة تحارب، لكنه عامل مهم في بناء الوطن.
هذه القبائل تاريخها حافل بالتضحيات والعطاء والكدح، وهي رصيد داعم لوحدة السودان وامانه، حتى لو كانت وراء الحدود فان صيانة الحقوق وبث المعاملة الحسنة والوفاقية يزيل الغبن ويبني امتداداًً اقليمياًً وقبلياً يرعى الحقوق ويحفظها ويصون العلائق ويوثقها.
ومنها كذلك اجراءات الجنسية المعقدة تجاه هذه القبائل ذات الشروط التعجيزية وأساليب التحقيق الجنائية التي يقوم بها قسم مباحث مختص، يحول، ويمنع كثيراً من المستحقين من حق استلام الجنسية نتيجة لهذه الاساليب التي يعجز امامها الافراد، وفي حالات كثيرة توقف الجنسيات وتسحب الملفات من قبل ضباط الجوازات لمجرد خطأ عرضي ليس ذا قيمة في بيانات الجنسية المطلوبة ويكتب عليها بالخط الاحمر الذي يدل ان صاحبها لا يمكن ان يحوز الجنسية بالكلية.
ومقارنة بسيطة مع القبائل التي لها امتيازاتها ـ فان الشروط تكاد تكون منعدمة في حقهم بالاضافة للنظرة التبسيطية لاخطاء طالب الجنسية من هذه القبائل التي تلقى المعالجات والتجاوز التلقائي مع سرعة الاستلام من دون كلفة ولا عناء حتى القبائل الوافدة التي ليس لها اصل في السودان ووفودها قريب، لها من المعاملة والاعتراف ما ليس لقبائل البني عامر والحباب، وهذه معيارية ثنائية ظالمة في التعامل مع قضايا هذه القبائل مما يتطلب وقفة جادة مع هذا الموضوع الذي يشكل حالة من الغبن الشديد والاستياء من هذه المعيارية المزدوجة التي بنيت على اصل الظلم وغمط الناس حقوقهم.
في هذا تنبيه لمن يهمه الامر ان يتابع السياسة الموضوعة تجاه هذه القبائل ومعالجة الاخطاء واحترام وتقدير حق الانسان وصيانة كرامة هذه القبائل، خاصة ان هذه القبائل كريمة لم يعرف عنها الا النجدة والسماحة وطيب المعاشرة والبساطة التي جرأت كثيراً من الحمقى باستغلال هذه الصفات السمحة ظناًً منهم ان ذلك ضعف وجبن، ولكن ما يؤكد جلدهم وشدة بأسهم ما هو مسطر من تاريخ الحروب سواء كانت صداًً لغائلة العوادي من الفتن القبلية، او ما قدمته تضحية وفداءً لهذا الوطن ـ بل لم يعرف عنها سعاية في شر او مؤامرة.
«وهل المواطن الطيب الكريم يساء إليه لكرمه وطيب معشره فتسحب حقوقه من تحته»؟
عبد القادر إدريس
المصدر صحيفة الصحافة